المملكة السعودية غاضبة.. هو أمر بيِّن، إذ إنها تدمّر اليمن على رؤوس شعبه، وإن كانت تعجز عن إخضاعه، وترتبك في مواقفها في سورية، بعد أن شاركت في تخريبها، وتحاول ابتلاع الهزيمة في العراق، وتسعى للاستحواذ على الموقف المصري بشرائه بالمال.. لكن ما هي مشكلتها مع لبنان حتى تطلب منه تنفيذ لائحة من الشروط المذِلة؟

يعتبر كثيرون أن غضب المملكة وحجب هبتها التسليحية عن لبنان، هو للتغطية على تدهور وضعها الاقتصادي، ومنع لبنان من الاستفادة من هبة بديلة من إيران، وإيجاد قضية لحلفائها في لبنان يرمّمون بها انهيارهم السياسي والشعبي، ثم حشر أخصامها وإرباكهم للتخفيف من هزائمها على مستوى الإقليم.

بيد أن فهم الموقف السعودي يقتضي استرجاع مشهدين لم تمرّ عليهما سوى أيام قليلة؛ وزير الحرب "الإسرائيلي" موشي يعالون، يصافح الأمير تركي الفيصل؛ رئيس المخابرات السعودي الأسبق، خلال مشاركتهما في المؤتمر الدولي للأمن في ميونيخ، وهي مصافحة ليست الأولى بين مسؤولين سعوديين و"إسرائيليَّين"، وتأتي في سياق دعوات سعودية متكررة لإقامة تحالف بين السعودية ومن يدور في فلكها من الدول العربية، وكيان العدو "الإسرائيلي"، للتخلص من أعباء الصراع العربي - "الإسرائيلي"، وشطب القضية الفلسطينية من حساب العرب والمسلمين، ومواجهة حزب الله وإيران، وقد اشتدت هذه الدعوات وظهرت اللقاءات إلى العلن في أعقاب البيان الرباعي المشهور الذي أصدرته المملكة وعدد من الدول العربية، والذي غطّت فيه العدوان "الإسرائيلي" على لبنان عام 2006.. وآخر ما حملته الأخبار نبأ قيام وفد رفيع "إسرائيلي" بزيارة الرياض، منذ أيام.

أما المشهد الثاني، النقيض، فكان في طهران؛ جمع قيادات من مختلف الفصائل الفلسطينية ومسؤولين إيرانيين، وأعقبه لقاء في بيروت، وكان أبرز ما صدر عنهما دعم "انتفاضة القدس" المستمرة والممتدة إلى مختلف المناطق المحتلة، ودفع مساعدات مالية إيرانية لصاحب كل منزل يهدمه العدو "الإسرائيلي"، ولذوي كل شهيد يقتله هذه العدو. وهذا المشهد ينطلق من شعار الجمهورية الإسلامية في إيران منذ انتصار ثورتها، حيث اعتبرت أن "إسرائيل كيان سرطاني يجب استئصاله"، وأن فلسطين يجب أن تعود إلى أصحابها الحقيقيين، ويُترجم هذا الموقف بدعم الشعب الفلسطيني، ومساعدة كل من يقاوم الهيمنة الأميركية والاحتلال "الإسرائيلي"، ويتمسك بمبدأ تحرير فلسطين.

ولأن بيروت مُصرّة على أن تبقى صلة وصل مع فلسطين، ومنطلق مقاومة حقّقت ما عجزت عنه أنظمة في وجه "إسرائيل"، ولأن بيروت كذلك موطن قوى سياسية تلقّت مليارات الدولارات من المملكة لتحقيق مطلبها في التخلص من المقاومة، وفشلت، فإن المملكة غاضبة على لبنان.

تريد السعودية سوق العرب إلى الاعتراف بالكيان الصهيوني، و"بيع" قضية فلسطين، وهذا سابق لوجود حزب الله، وقبل التغيير في إيران؛ لنتذكر مبادرتها في "قمة فاس" عام 1981 و1982، وقبلها محاربتها لجمال عبد الناصر، ولكل من تصدى للهيمنة الأميركية والغزو "الإسرائيلي"، وهي رفعت "راية الإسلام" في وجه عروبة عبد الناصر، وترفع اليوم كذباً "راية العروبة" في وجه إسلام إيران، ولا ننسى أن وهابية آل سعود تكفّر كل إسلام يخالفها، ولا تعترف أصلاً بالقومية، ولا بالعروبة.

مشكلة المملكة أن الأميركي قرر بعد غزوه العراق، وكذلك "الإسرائيلي" بعد هزيمته في عدوان 2006 على لبنان، ألا يقاتلا مباشرة، وأن على حلفائهما العرب أن يقاتلوا بدلاً عنهم، لكن هؤلاء الأتباع نجحوا فقط في تدمير الأقطار العربية التي استهدفوها؛ إن كان في العراق، أو ليبيا، أو سورية، أو اليمن، وهي للمناسبة دول جبهة الصمود والتصدي، ولم يستطيعوا الاستحواذ عليها وضمّها إلى القطيع الأميركي، فكان قرارهم استنساخ القرار الأميركي - "الإسرائيلي" بتطويع أتباعهم ليقاتلوا عنهم في بلدانهم، مثلما يفعل عبد ربه منصور هادي في اليمن، ومثلما تفعل المعارضة السورية المسلَّحة، وتنظيم "داعش" في العراق.. هكذا تريد السعودية من حلفائها قوى "14 آذار" في لبنان؛ أن يصبحوا "مطوّعين" يقاتلون ويخلصّونها من حزب الله بناء على الأوامر الأميركية - "الإسرائيلية"، لكن هؤلاء الأتباع ليسوا جبناء فقط، بل لصوص، كان جُلّ همّهم خلال العقدين الماضيين سرقة ما تُقدّمه لهم السعودية من أموال، وشتم دول وقوى محور المقاومة.

غضبت السعودية، فسارع الأتباع إلى الزحف إلى سفارتها وتقبيل الأيادي والأرجل لنيل الرضا، لكن الخانعين لا يستطيعون إقناع اللبنانيين بتقليدهم في استجداء رضى "طول العمر"، ولذلك فإن غضب المملكة مرشّح لأن يتصاعد.