مفاجأة من العيار الثقيل فجّرتها ​روسيا​ بانسحابها من الحلبة السورية. للوهلة الأولى، ارتبك الأقربون والأبعدون في تفسير الخطوة. حتى موالو النظام السوري نظروا إليها بسلبية في بادئ الأمر، فقرأوا بين طيّاتها "تخلياً"، فيما ذهب المعارضون لحدّ الحديث عن "انتصارٍ" لم يتردّدوا في نسبه لأنفسهم.

وبين هذا وذاك، وجد لبنان نفسه كالعادة في قلب "المعمعة". لم تنفع سياسة "النأي بالنفس" الرسمية بـ"تحييده" عن الحدث المستجدّ، فانتشرت سريعًا التحليلات كالنار في الهشيم، ومعها بدأت "التكهّنات" حول انعكاساتٍ داخليةٍ مرتقبة!

ليس خطاً أحمر!

"هي ضربة قاسية لقوى ما يسمّى بالمقاومة والممانعة، بعد أن توهّمت أنّ روسيا باتت جزءاً لا يتجزّأ منها". بهذه العبارات، تختصر مصادر في قوى الرابع عشر من آذار الانسحاب الروسي من الميدان السوري، ولو بقي غير مكتمل، فهي كانت تتوقع هذه الخطوة عاجلاً أم آجلاً، بل إنّ جميع المتابعين كانوا يدركون أنّ روسيا لن تبقى في سوريا إلى ما لا نهاية.

لا يعود الأمر فقط لغياب المصلحة الروسية في الغرق أكثر في المستنقع السوري، بل لكون موسكو نجحت في تأمين مصالحها في الأرض السورية، من خلال ضمان تواجدها على شواطئ البحر المتوسط، وهو الهدف التاريخي لها بالوصول إلى المياه الدافئة، وبالتالي فهي لا تمانع الوصول إلى أي تسوية، تقول المصادر "الآذارية"، ولو كانت على حساب الرئيس السوري ​بشار الأسد​، بشرط الحفاظ على مؤسسات الدولة، وهي تلتقي في ذلك مع الولايات المتحدة الأميركية التي لا تريد تكرار التجربة العراقية، لا سيما أنها لا تفكر بالعودة العسكرية المباشرة إلى المنطقة.

هنا يكمن بيت القصيد. الرئيس الأسد ليس خطاً أحمر، كما قال قبل أيام وزير خارجيته ​وليد المعلم​، وهو لم يكن كذلك يوماً أقلّه بالنسبة لروسيا، التي لا يمكن لها أن تغامر بكلّ علاقاتها الدولية والإقليمية كرمى لعيونه، ولا باقتصادها الذي لا يحتمل الدخول في حرب طويلة بعد تراجع أسعار النفط، والتجربة الأفغانية خير دليلٍ. أصلاً، إذا كان هناك من تفسير "عملاني" للخطوة الروسية، فهو أنّها تمهّد للتسوية السياسية التي لن يكون للأسد مكانٌ فيها، تقول مصادر "14 آذار"، التي تبدو واثقة بأنّ سوريا المستقبل ستكون أقرب إلى المحور العربي المعتدل، وإن بقيت صورتها غامضة حتى اليوم.

على طهران أن تفهم هذه المعادلة جيداً، تخلص المصادر "الآذارية"، مشدّدة على أنّ كل الأمور ستكون متوقفة على الموقف ال​إيران​ي في المرحلة المقبلة، وما إذا كان سيرضخ إلى خيار التسوية أم ينحاز إلى خيار المواجهة مع المجتمع الدولي من جديد.

تحليلات دونكيشوتية!

يصطدم هذا "المنطق" بـ"سخرية" في المقابل بين أوساط قوى الثامن من آذار، التي تصف ما يُقال هنا وهناك بـ"التحليلات الدونكيشوتية" التي لا تمتّ للواقعية السياسية بصلة، وتدعو من سارعوا للاحتفاء والانتشاء لـ"بعض التواضع الذي يفيد ولا يضرّ".

وعلى الرغم من أنّ وقع "المفاجأة" التي أحدثتها الخطوة الروسية كان كبيراً على هذه القوى، فإنّ أوساطها تبدو وكأنّها "استوعبت" ما حصل إلى حدّ بعيد. هي تشدّد على أنّ الانسحاب منسّق مع الدولة السورية ويصبّ في خدمة الحلّ السياسي الذي تنشده منذ اليوم الأول، وتذهب لحدّ الاشادة باللاعب الروسي الذي "لعبها بذكاء"، بحيث عرف متى يتدخل ليغيّر قواعد اللعبة، ومتى ينسحب ليكرّس هذه القواعد، ويضغط على الجميع لتقديم التنازلات.

أكثر من ذلك، تعتبر هذه الأوساط أن تحليلات الفريق الآخر ناتجة عن تجاربها السابقة مع الولايات المتحدة، فهي تعتقد أن موسكو كواشنطن لن تتردد في التخلي عن حلفائها من أجل تحقيق مصالحها، إلا أنها تؤكد بأن الرئيس فلاديمير بوتين ليس كذلك. هي ترى أنّ ما قام به يهدف لإحراج القوى الإقليمية والدولية في المقلب الآخر، من أجل دفعها نحو إعتماد الخيار السياسي، ولكن في حال عدم التجاوب معه، لن يكون بعيداً عن خيار العودة بشكل أكبر، خصوصاً أنه لم ينسحب من المعركة بشكل كامل.

أما الكلمة النهائية، فتبقى للميدان السوري، بحسب هذه المصادر، التي تشدّد على أنّ المعركة لا تزال طويلة، مذكّرة بأنّ دمشق قاومت وصمدت منذ ما قبل التدخل الروسي، وهي سوف تستمر على هذا الموقف إلى حين تحقيق الإنتصار الكامل، لا سيما أن كل التسويات المطروحة هي مقدمة لهزيمة كبرى، سواء كان ذلك في المدى القريب أو المتوسط أو البعيد. وتخلص إلى أن مصلحة موسكو هي في البقاء إلى جانب المحور الذي تنتمي إليه، خصوصاً أن إنتصارته هي من أعادتها إلى الساحة الدولية كدولة محورية غير ملحقة.

دروسٌ وعِبَر...

عمومًا، ورغم "التباعد الكامل" بين فريقي الثامن والرابع عشر من آذار في قراءة المستجدّات السورية، فممّا لا شكّ فيه لدى أيّ منهما أنّ الحلّ السوري لا بدّ أن ينعكس إيجاباً على لبنان، سواء لجهة ملف النزوح السوري الضاغط، أو لجهة الاستحقاقات السياسية المجمّدة، والشبح الأمني، ولكن من المبالغة بمكان توقّع نضوج هذا الحلّ بسرعة البرق، أو أن يكون للانسحاب الروسي تداعيات مباشرة.

هذا ما يجمع عليه فريقا "8" و"14"، مع افتراقهما في قراءة "الدروس" التي يتوجّب أخذها. ففريق "14 آذار" يعتبر أنّ الكرة في ملعب "حزب الله" مجدّداً، وأنّه وحده القادر على "صرف" المستجدّات السورية، وإن كانت أوساطه تتوقّع أن يتمسّك بورقة "الرئاسة" أكثر لاستخدامها على طاولة المفاوضات في المستقبل. ولكن، وبعيدًا عن التوقعات، تتمنى هذه الأوساط لو أنّ الحزب يحذو حذو الروس، فيتّخذ خطوة إنقاذية عبر الانسحاب من المستنقع السوري والعودة إلى لبنان، انسجاماً مع الدعوة التي وجّهها له رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ في حديثه التلفزيوني الأخير السابق للانسحاب الروسي، وإلا فإنّه لن يستطيع ليس عدم "صرف" الخطوة الروسية فحسب، بل عدم "صرف" الانتصار الذي قال أنه حققه بحصر مرشحي الرئاسة بفريقه.

في المقابل، تصرّ أوساط فريق الثامن من آذار على أنّ الكرة ليست إلا في ملعب الفريق المقابل، الذي عليه أن يدرك أنّ "رهاناته خائبة"، ويشرع بالتالي بالبحث عن تسوية شاملة لا غنى عنها على طريقة السلة الكاملة المتكاملة، وعدم الرهان على المتغيّرات الخارجية، وهو موقفٌ لطالما ردّدته قياداتها، وفي مقدّمها الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله ورئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون من دون أن تلقى أيّ صدًى، علمًا أنّ المتغيرات لم ولن تكون لصالح الفريق الآخر، كما تؤكد هذه الأوساط.

على الورق...

صحيح أنّ لبنان ليس جزيرة منعزلة، وأنّه يتأثر بأحداث المحيط ربما أكثر ممّا يؤثر بها، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ الأزمات التي يرزح تحتها أكثر من كافية، من أزمة النفايات، إلى الفراغ الرئاسي، مروراً بالأزمات الاقتصادية والأمنية المستفحلة.

من هنا، قد يكون الانصراف لحلّ هذه الأزمات أكثر أهمية وقيمة من تحليل أحداث الخارج، وتبادل أوسمة الانتصارات والهزائم، التي تبقى على الورق، وغير قابلة للصرف حتى إشعارٍ آخر!