لطالما أقرّ كثيرون، وبينهم مسؤولون، أن في لبنان حرية، لكن الديمقراطية فيه معدومة. ففي لبنان تستطيع أن تقول ما تشاء، لكن تداوُل السلطة معدوم، لأن زعماء الطوائف وبقايا الإقطاع القديم يحتكرون مواقع الحكم والسلطة لهم ولأزلامهم، لأنهم يفصّلون القوانين الانتخابية على مقاساتهم.

كذلك، ترتاح دول النفوذ والقرار الدولي والإقليمي لآلية انتخاب رئيس الجمهورية، التي تتيح لها التدخُّل وإيصال من يناسب مصالحها إلى الموقع الأول في الدولة اللبنانية؛ فكما من السهل على الفائزين في الندوة النيابية شطب وجود الأكثرية المطلقة من اللبنانيين عن دائرة التأثير، لأنهم يفوزون بأكثرية 51 في المئة من المقترعين، وهي غالباً بين 40 إلى 60 في المئة من المسجلين، هذا في حال الإقبال على الاقتراع، فمن السهل الضغط على عدد قليل من النواب، أو شراؤهم بالمال لإيصال الرئيس المطلوب، فتكون الديمقراطية وإرادة اللبنانيين أولى ضحايا هذا الواقع السياسي، الذي بات مصنعاً للفساد والإفساد.

هذا الواقع جعل لبنان من الدول القليلة التي يقرّ فيها مسؤولون بأن لا دولة فيها، وهذا الكلام سمعناه كثيراً، وآخر محطاته كانت خلال مراوحة الحكومة في الفشل عن إيجاد حل لمسألة تراكم النفايات في شوارع المدن والبلدات ما يزيد عن ثمانية أشهر.

لم تُبنَ مؤسسات حقيقية في الدولةعلى أسس وطنية بعد الحروب الداخلية، باستثناء مؤسسة الجيش، أما ما عداها فـ"مزارع" لزعماء الطوائف والإقطاع، لكن حتى هذه المؤسسة تحارَب ويُمنع عنها المال والسلاح، بل وتتم محاولة توريطها بالفساد، من خلال الإشارة إلى استفادتها من شركات "الإنترنت" غير الشرعية، حسب ما قال مدير عام مؤسسة "أوجيرو".

أما مؤسسات الحُكم الأساسية فحدّث ولا حرج عن فشلها، إذ إن مجلس النواب عاجز عن تجديد شرعيته، وبات مطعوناً بصحة تمثيله للبنانيين، بعد أن جدد لنفسه بدلاً من الاحتكام إلى أصوات المواطنين، كما أنه عاجز ومتوقف عن التشريع، وعاجز كذلك عن تنفيذ الوعود المتكررة بوضع قانون عصري للانتخابات يعتمد النسبية والدوائر الكبرى بدلاً من القانون الساري والموضوع منذ أكثر من نصف قرن، وبعض ما فيه يخالف اتفاق الطائف، لجهة حجم الدوائر وعددها..

الحكومة بدورها ليست فقط مشلولة وعاجزة عن مواجهة وحل المشكلات التي تضغط على اللبنانيين، بل هي ضعيفة إلى حد بدت فيه شركة "سوكلين" للتنظيفات ومن يقف خلفها أقوى منها، مثلما تأكد اللبنانيون أن الحكومة عاجزة عن تخطي رفض أصحاب المصارف لتلبية مطالب الموظفين بتعديل سلسلة الرتب والرواتب لتُواكب الغلاء والتضخُّم اللذين يأكلان رواتب محدودي الدخل، وهي الحكومة ذاتها والتي سبقتها عجزتا عن قبول هبات بتسليح الجيش، وعجزتا عن إعطائه الأمر بتحرير جرود البقاع الشمالي التي تحتلها عصابات "داعش" و"النصرة"، لأن الأميركيين لا يسمحون بقبول الهبات من دول غير صديقة لهم، والسعوديين لا يسمحون بمقاتلة التكفيريين، والأخطر أن كل يوم يمرّ يكشف عن حجم الفساد الذي ينخر مفاصل هذه الدولة، وآخر الفضائح تلك السرقات والاختلاسات في مؤسسة قوى الأمن الداخلي، التي وُجّه الاتهام بالتورط فيها إلى حوالى أربعمئة من الضباط والرتباء والعناصر.

استشرى هذا الفساد ليصل إلى تواطؤ سياسي رسمي مع بعض التوجّهات الخارجية التي تريد من لبنان تنفيذ رغبات البعض بمنع النازحين السوريين من التوجُّه إلى الدول الغربية، لأن ذلك بات يهدد أمنها، وكذلك منعهم من العودة إلى وطنهم، ليسهل الضغط عليهم واستخدامهم ضد بلدهم في الانتخابات السورية المقبلة، خصوصاً الرئاسية منها.

هذا الوضع غير الطبيعي بات يمنع اللبنانيين من السماح لهذه الطبقة السياسية أن تتولى هي إعادةإنتاج السلطة ووفق مصالحها، وبالتالي باتت العودة إلى الشعب لاختيار رئيس للجمهورية، عن طريق الاقتراع الشعبي المباشر، أمراً بديهياً لا بديل عنه، وهو ما طالبت به أكثر من جهة فاعلة، بما يحقق توازناً، عبر إعادة بعض الصلاحيات إلى رئاسة الجمهورية، حتى لا يكون الرئيس "باشكاتب" أمام الحكومة، مثلما كان رئيس الحكومة "باشكاتب" أمام رئيس الجمهورية قبل اتفاق الطائف، ومن دون هذا التغيير وإعادة القرار إلى الشعب اللبناني لاختيار رئيسه ومجلس نوابه، فإن قطار الفساد سيبقى ينخر مؤسسات الدولة من دون خوف من رقابة أو محاسبة.