كثيرون يصفون لبنان ببلد العجائب، وبين الحين والآخر تحصل أمور بشكل ‏مفاجئ ومُغاير لكل التوقّعات لتؤكّد هذه المقولة الشعبيّة. والجديد في هذا ‏السياق تمثّل بتبدّل الترشيحات الخاصة بمنصب الرئاسة، والتي إنعكست ‏بدورها تبديلاً للتفاهمات السياسيّة، لتأتي الإنتخابات البلديّة الموعودة في ‏الأسابيع المقبلة(1)، لتؤكّد بدورها أنّ لبنان هو بلد العجائب، حيث تخوض ‏الأطراف السياسيّة المسيحيّة معارك "كسر عظم" في بعض المناطق، علمًا أنّ ‏هذه الأطراف نفسها دخلت في تفاهمات حبّية في بعض المناطق الأخرى. فما ‏هي أبرز خُطوط صورة الإنتخابات البلديّة المُرتقبة؟

بموازاة العديد من المدن والبلدات التي نجحت الأحزاب والشخصيّات السياسيّة ‏فيها في التوصّل إلى تفاهمات حبّية لتقاسم عدد مقاعد البلديّات فيها، تحت ‏شعار "تقديم الإنماء على السياسة"، فإنّ بعض المدن والبلدات الكبرى مُرشّحة ‏لأن تشهد معارك إنتخابية حامية. ومن الضروري الإشارة إلى أنّ كلاً من ‏‏"التيار الوطني الحُر" و"القوات اللبنانيّة" يرغبان بشدّة بإظهار شعبيّتهما ‏وثقلهما السياسي في الساحة المسيحيّة، بهدف تعزيز موقعهما التفاوضي ‏بالنسبة إلى حقوق المسيحيّين والملفّ الرئاسي، لكنّهما يعرفان تماًما أنّ ‏الإنتخابات البلدية ليست سياسيّة مئة في المئة، والكثير من الناخبين يُقدّم ‏البُعد العائلي أو المصلحة الشخصيّة على ميوله السياسيّة، الأمر الذي قد ‏يؤدّي إلى خسارات سيُسارع خصومهما إلى إستغلالها للتشكيك بحجمهما ‏التمثيلي. لذلك وبعد أنّ إتفق كل من "التيّار" و"القوّات" على تقاسم البلديّات ‏مع جهات أخرى، وفق نسب تختلف بين منطقة وأخرى وبلدة وأخرى بحسب ‏الثقل السياسي لكل منهما، يعمل كلاهما على إستمالة باقي الأطراف إلى ‏لوائحهما المُشتركة، لتكون اللجان البلدية المُنتظر إنتخابها عبارة عن هيئات ‏إئتلافيّة تُقدّم مصلحة خدمة المواطن والبلدة أو المدينة المعنيّة على سواها، ‏لكن من دون التنكّر لنُفوذ القوّتين السياسيّتين الأساسيّتين على الساحة ‏المسيحيّة. لكنّ مساعي التفاهم والتوافق التي يخوضها كل من "التيّار" ‏و"القوّات" إصطدمت في بعض المناطق برفض القوى السياسيّة تقاسم ‏الحصّص البلديّة مع "التيار" و"القوّات"، إمّا بسبب عداوات سابقة مُحكمة مع ‏أحدهما، وإمّا بسبب خلاف على توزيع النسب بين مختلف الأطراف المعنيّة. ‏

وفي هذا السياق، يُمكن تعداد بعض الأمثلة. ففي زحلة مثلاً، قرّرت "الكتلة ‏الشعبيّة" برئاسة ​ميريام سكاف​، تشكيل لائحة منافسة للائحة الأحزاب ‏المسيحيّة الثلاث (التيار والقوات والكتائب)، علمًا أنّها تراهن على أنّ الناخبين ‏الذين ساهموا في إيصال أغلبيّة أعضاء لائحة "الكتلة الشعبيّة" في إنتخابات ‏العام 2010 سيُعاودون الكرّة هذه المرّة أيضًا، مدعومين من أصوات شيعيّة ‏ترفض التصويت لأي لائحة تتضمّن مُرشّحين لـ"القوات"، ومن أصوات سنّية ‏ترفض التصويت لأي لائحة تضمّ مرشّحين للتيار "العَوني". في المُقابل تراهن ‏اللائحة المُقابلة على أن يحدث التوافق بين الأحزاب المسيحيّة كافة التقدّم ‏المطلوب، خاصة وأنّ "القوّات" رفعت "الفيتو" عن أيّ مرشّحين مدعومين من ‏النائب ​نقولا فتوش​ الذي كانت تدهورت علاقته بـ"القوات" قبل أن تتدهور أخيرًا ‏علاقته بآل سكاف أيضًا، شرط أن يكون هؤلاء من حصّة "التيّار الوطني ‏الحُر". ‏

في "​سن الفيل​"، ستقع معركة حامية بين لائحة مدعومة من حزب "الكتائب ‏اللبنانيّة" وأنصار النائب ​ميشال المر​ّ ولائحة مُقابلة مدعومة من "التيّار ‏الوطني الحُرّ" وحزب "القوّات اللبنانيّة". والمسألة تتعدّى الرغبة بإزاحة الرئيس ‏الحالي للبلدية ​نبيل كحالة​، لصالح حلول المحامي ​جوزيف شاوول​ مكانه، ‏وهي تشمل الصراع على النُفوذ في كامل المتن حيث يعتبر حزب "الكتائب" ‏والنائب المرّ أنّهما من اللاعبين الأساسيّين، وأن لا مجال لتجاوزهما، في ‏مقابل رغبة "عونيّة" – "قوّاتيّة" بإثبات النفوذ. والمُحاولات مُستمرّة بين الطرفين ‏لإستمالة صوت الناخبين الأرمن في المعركة المتنيّة.‏

في جبيل، تقف "القوات" في موقع لا تُحسد عليه، فهي تدعم رئيس المجلس ‏البلدي الحالي ​زياد حواط​ الراغب بالترشّح لولاية جديدة، وترغب في الوقت ‏عينه بضمّ ممثّلين عن "التيار الوطني الحُرّ" إلى لائحته. والخلاف كبير بين ‏حوّاط و"التيّار" بشأن الحُصص، علمًا أنّه في المعركة السابقة وقف "التيار" ‏مدعومًا من أصوات الناخبين الشيعة والأرمن ضدّ الرئيس الحالي للبلديّة ‏والقوى التي دعمته في حينه، ومن بينها "القوات". ‏

في جونية، الصورة النهائيّة لم تتظهّر حتى تاريخه حيث لم تحسم التحالفات ‏بعد، علمًا أنّه في مُقابل مساعي تشكيل لائحة توافقيّة، والتي توُاجه مشاكل ‏تعدّد الجهات السياسيّة الفاعلة، وبالتالي تعدّد المرشّحين لمنصب رئاسة ‏البلدية، يُحاول النائبان السابقان ​فريد هيكل الخازن​ و​منصور غانم البون​ ‏إظهار نفوذهما في جونية كما في باقي مدن وبلدات ​كسروان​، تمهيدًا للمعركة ‏الإنتخابية النيابيّة في حزيران 2017 كما هو مُقرّر من الناحية المبدئيّة. وفي ‏الوقت عينه تُسجّل جهود كبيرة يبذلها رئيس المؤسّسة المارونية للإنتشار نعمة ‏إفرام لتجنّب حصول معركة. ‏

في الختام، لا شكّ أنّ الإنتخابات البلديّة المُقبلة تحمل الكثير من الحساسيّات ‏العائليّة، لكنّ طابعها السياسي موجود بقوّة، في ظلّ تحالفات غير ثابتة، إلا ‏بين "التيار" و"القوّات" في أغلبيّة المناطق. وعلى الرغم من بعض المآخذ على ‏الأحزاب هنا، ومن التحالفات غير المنطقيّة هناك، فإنّ الشعب اللبناني مدعوّ ‏لمُمارسة حقّه بالإنتخابات الديمقراطيّة على مختلف المُستويات، ومنها البلديّة. ‏وهو مدعوّ أكثر للخروج من تحت عباءة الإقطاعيّين الذين حكموه أباً عن جدّ ‏على مدى مئات السنوات، باعتبار أنّ أسوأ حزب أفضل بكثير من أفضل ‏الإقطاعيّين، لأنّ الأحزاب السياسيّة تُمثّل ديمقراطيّة المُجتمعات، وتطوّر هذه ‏الأخيرة يبدأ من تطوير الأحزاب وبرامجها من الداخل، بينما الإستمرار ‏بالإستزلام لمن يُطلق على نفسه لقب "بيك" هنا ولقب "شيخ" هناك، ما هو إلا ‏نوع من العُبوديّة المُقنّعة والموروثة من زمن التخلّف والجهل. ‏

(1)‏ ستُجرى الإنتخابات البلدية على مراحل، بدءًا من 8 أيّار المقبل ‏وحتى 29 منه، بفارق أسبوع واحد بين كل جولة وأخرى. ‏