ينتقل اللبنانيون من أزمة الى أخرى، ومن قضية فساد مشينة الى قضية أكثر إدانة للطاقم السياسي اللبناني الذي يحكم لبنان منذ الطائف ولغاية اليوم. ولئن كان اللبنانيون يدركون فساد هذه الطبقة السياسية وقلة مسؤوليتها، فإنهم يدركون أيضًا أن الشمّاعة التي يعلّق عليها الجميع مسؤولية التردّي الحاصل وهي رئاسة الجمهورية لن تستطيع أن تصنع المعجزات ولا تستطيع منع السرقات الموصوفة للدولة وموازنتها، والتلاعب بمصير اللبنانيين وأمنهم وصحتهم وصحة أولادهم.

ولعل أهم ما حصل في السنتين المنصرمتين من عمر الأزمة الرئاسية اللبنانية المستفحلة، هو انفراط تركيبة التحالفات السياسية السابقة أو ما كان يُعرف إصطلاحًا بقوى 8 و14 آذار، ويعود الفضل بذلك الى المملكة العربية السعودية بالتحديد، التي استطاعت أن تعيد هندسة التحالفات اللبنانية وذلك على الشكل التالي:

- خلخلة تيار المستقبل بزعامة الحريري المطلقة، لصالح تيارات عدّة يستطيع كل منها أن يدّعي نفوذًا في جانب يكسب فيه على سواه؛ فالحريري ونتيجة إفلاسه المالي الذي ساهمت فيه المملكة، ونتيجة سفره الطويل والذي انتهى بقرار سعودي أيضًا، أخلى الساحة للصقور في تيار المستقبل وعلى رأسهم أشرف ريفي الذي استطاع أن يتحدى الحريري باستقالة مفاجئة، وتجرأ على مقاطعته هو وجمهور تيار المستقبل في طرابلس لدرجة إحراجه بعدد المصلّين الضئيل خلال زيارته للمدينة.

- انفراط عقد قوى 14 آذار؛ وذلك بعدما قام الحريري وبتشجيع سعودي بترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، الأمر الذي أغضب "القوات اللبنانية" وبعض صقور تيار المستقبل ودفعهم الى تحدّي الخطوة الحريرية بترشيح العماد عون للرئاسة.

- انفراط قوى 8 آذار، وذلك على خطين: خطّ فرنجية الذي أعلن "الاوادم الحصريين في البلد" - هو والحريري- بينما يشنّ الحريري هجومه على حزب الله بهدف رفع أسهمه في شارعه ولدى المملكة، والخط الثاني، وهو القيادات السنّية المتحالفة تاريخيًا مع المقاومة، والتي فتحت خطوط التواصل والتفاهم مع المستقبل ومع السعودية. والحق يقال، أن القوى السنّية تلك، وعند كل مفصل تاريخي، يقوم فيه حزب الله بمدّ الجسور مع تيار المستقبل، أو يصار الى تشكيل سلطة جديدة بينهما، تعتبر تلك القوى أنه يتم تهميشها، وترى أنه يطبق عليها المثل القائل "لا تعرفني إلا في وقت ضيقك، وفي وقت فرحك تنساني".

إذًا، استطاعت السعودية، وبالرغم من كل تراجعها الاقليمي، أن تعيد هندسة التحالفات الداخلية في لبنان، فهل هذا دليل قوة فائقة أو ضعف وتراجع كما يقال؟.

أولاً: قد تستطيع السعودية أن "تخربط" المحاور السابقة في لبنان، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنها تستطيع أن تغيّر معادلات الداخل أو تفرض توازنات جديدة. وبمقياس الأرباح والخسائر، يمكن القول أن السعودية ربحت في "خلخلة" 8 آذار، ولكن ذلك لم يكن بدون تداعيات على ساحتها، لا بل إن خسائر حلفائها أكبر بكثير من خسائر خصومها. عمليًا، بدت السعودية في تلك العملية كمن يطلق النار على رجليه؛ فخروج سمير جعجع من 14 آذار أكثر تأثيرًا من تموضع فرنجية بين 8 آذار وتيار المستقبل المتهالك.

ثانيًا: إن دخول السعودية طرفًا في "كامب ديفيد" بعد قرار السيسي بانتقال جزيرتي "تيران وصنافير" إلى سيادتها، وكلام الغزل السعودي - الاسرائيلي، يحدّ من قدرة السعودية على استثمار تقاربها مع بعض القوى السنّية اللبنانية المشهود لها بوطنيتها وعروبتها، خارج إطار الشارع السنّي اللبناني حصرًا. لذا، لن تستطيع المملكة - تحت أي ظرف- أن تجعل تلك القوى جزءًا من مشروعها الاقليمي ضد سورية ومع اسرائيل.

ثالثًا: إن الاجراءات العقابية للجيش اللبناني، والتهويل بالفوضى، والتصعيد الاعلامي ضد لبنان ومؤسساته ورموزه الوطنية، شوّه صورة السعودية في لبنان، لا بل أكثر، جعل السعودية تُحرج في محاولتها المسّ بالاستقرار في وقت يزداد حرص الغرب على الاستقرار اللبناني، وينبّه من أي مسّ فيه.

في المحصلة، إن الضغوط الاقتصادية التي تعيشها المملكة، وتزايد الإحراج الذي تعانيه في الغرب، بعدما حظر الاتحاد الاوروبي تصدير السلاح اليها، وبعد تزايد التقارير الاعلامية الاوروبية حول سجل المملكة في حقوق الانسان، والأهم، التسريب الأميركي المزدوج حول ضلوع جهات رسمية سعودية بأحداث 11 أيلول، وورود اسم الملك سلمان في وثائق بنما (أي أنه قد يكون مساهمًا في تمويل أنشطة غير مشروعة)؛ يعني أن الساحة اللبنانية لن تستطيع إعادة تعويم المملكة مهما فعلت. وفعليًا، قد يكون خلط الاوراق اللبنانية دليل تخبط سعودي وصراع أمراء أكثر مما يكون سياسة سعودية ذكية قابلة للاستثمار بدليل عدم قدرة اي طرف على قلب الطاولة، أو الاستثمار في عدم الاستقرار اللبناني لقلب المعادلات في سورية.