قد يحتاج المتخصصون في تشريح النتائج الانتخابية اياماً إضافية للانتهاء من تحليل النتائج وفك رموزها مناطقياً وارتداداتها السياسية على الحلفاء والخصوم في آن معاً. في بيروت لعبها سعد الحريري صولد مع جمهوره السني وامام عينيه هدف واحد: استعادة التواصل معهم والمقطوع منذ العام 2011 تاريخ نزوحه الاختياري والسياسي الى السعودية وفرنسا بعد اسقاطه من على كرسي السراي. يواجه الحريري اليوم اصعب ايامه على غرار كل القوى السياسية التي تركن حركتها الى التمويل الخليجي، حيث شح هذا التمويل الى الربع او اقل. بينما "قطع" الاوروبيون ايديهم و"شحدوا" عليها من بوابة النازحين، بعدما كانوا يمولون العديد من الاحزاب والجمعيات من بوابة المجتمع المدني والتوأمة والتدريب والانتخابات الخ. اما الاميركيون فإنهم ابقوا على تمويل محدود لبعض الجمعيات والنشاطات ذات الابعاد السياسية.

ازمة "سعودي اوجيه" تعصر ما تبقى من قوى اقتصادية للحريري ومؤسساته. اذ ينتظر ان يسرح منها الالاف من "البيارتة" والصيداويين ما يرتب التزامات اضافية على سيد "بيت الوسط" لكون معظم هؤلاء المسرّحين من جمهور وناخبي "تيار المستقبل" مع ذويهم واقاربهم.

وتضاف الى ازمة مؤسسات الحريري في السعودية، ازمة المؤسسات التي تتبع مالياً للشيخ سعد من اعلام وتربية وطبابة وكلها مؤسسات يشكو موظفوها من "القلة" والحاجة الى رواتب لم تقبض من عام ونيف.

في معركته البيروتية الاخيرة كسب الحريري الرهان السني، اذ نجح في إعادة المياه الى مجاريها مع المهندس فؤاد المخزومي الذي مول الحملة الانتخابية وفق ما يقول مشاركون في الماكينة الانتخابية الزرقاء ووصلت مساهمته الى مليون دولار وبضعة الاف. كما ساهم رجل اعمال آخر صديق لآل الحريري منذ زمن بعيد ولا سيما الرئيس الشهيد بالمساهمة بتمويل كل مصاريف الحملة الانتخابية ودفع كل اتعاب ومستلزمات 15 الف مندوب ازرق. ما يعني ان سيولة كبيرة ضخت ودفعت نقداً في بيئة متعطشة الى "المال الازرق" منذ اعوام خمسة. ولم يتأكد بعد ما اذا كان المال ديناً مؤجلاً ويتردد انه يفوق الـ30 مليون دولار، او انه هبة سياسية من صديق الى صديقه.

التواصل المباشر للحريري وعمته وابن عمته ولكوادر "المستقبل" مع البيئة الشعبية الحاضنة في بيروت، قد اعاد الحرارة وخصوصاً في المناطق التي تصوت منذ العام 1992 للوائح الحريري الاب وتلتزم معه في كل الاستحقاقات، واعطته في العام 2000 ما لم يعط لزعيم بيروتي. فلا مبالغة ان بعد الـ2000 اراد الحريري الاب ان يغلق كل البيوتات البيروتية المناوئة له وحتى آل سلام وتمام بيك واحد منهم.

لم يحصل الحريري من معركته على كل ما اراده، حيث كسب بلدية بالحد الادنى من التصويت الذي يعبّر عن المزاج البيروتي الرافض له ولكل الطبقة السياسية الحاكمة. فما اصابه يكفيه من سوليدير ومصادرة الاملاك البحرية الى استملاك معظم بيروت وتلزيمها لنافذين وتجار. الى الازمة الاخيرة من النفايات وفشل "المستقبل" في احراز اي مشروع حيوي ومفيد لبيروت وابنائها وناخبيه بعد خروجه من السلطة، فغابت الخدمات والتوظيفات وانقطعت الرواتب والمساعدات.

التواصل مع الطرف السني الآخر اعطى تحالف عبد الرحيم مراد وسعد الحريري ما يقارب الـ18 بلدية في البقاع الغربي على حساب التيار الوطني الحر والقومي واطراف اخرى في 8 آذار، الامر الذي يفترض توضيحاً من مراد لحلفائه عن ابعاد هذا التحالف وانعكاسه مستقبلاً على كل التوازنات السياسية في البقاع الغربي.

وفي بيروت ايضاً لم يربح الحريري كل السنّة، ولم يخسر كل المسيحيين لكنه ظهر بمظهر من يحتاج الى تحالف الاحزاب ليخوض اي استحقاق. فالايام التي كان "تيار المستقبل" يخوض الاستحقاقات فيها وحيداً ويفوز قد انتهت الى غير رجعة. ويضاف الى هذه المعضلة معضلة الخصام المسيحي للحريري. فزعيم التيار الازرق لم يربح العونيين وخسر القوات بعد تحالفهما على خلفية ترشيحه للنائب سليمان فرنجية للرئاسة. وقد ظهر هذا الخصام في انتخابات بيروت البلدية والاختيارية حيث صبّت بعض او "اكثرية" اصوات التحالف المسيحي للائحة المنافسة بينما قاطع الكثير من مسيحيي بيروت الانتخابات الاختيارية بعد فرض مرشحين لا يعبّرون عن اهل الاشرفية والرميل والصيفي كما يؤكد المقاطعون.

في زحلة وقف الحريري وتياره على الحياد ولم يعطوا اي اصوات الى لائحة ميريام سكاف وفق ما تعهّد لها. ويتردد ان الاصوات السنية في زحلة لم تذهب الى اي من اللوائح الثلاث باستثناء بعض عشرات الى لائحة اسعد زغيب بحكم العلاقات المشتركة مع بعض المرشحين فيها مع سنّة المدينة.

في البقاع الغربي تحالف مراد- الحريري رجح دفة التيار الازرق بينما اخرج الحريري "ابو عجينة" من القصر البلدي في عرسال بعدما تجاوزت تجاوزات ومشكلات الاخير حدود المعقول واحتمال الحريري وقدرته على تغطيته فأبقى على آل الحجيري "بجبّهم" الاساسي ممثلين واتى ببلدية "كاملة النقاء" والولاء له.

وفي حين يتبقى للحريري ملحمتا صيدا وطرابلس، في الاولى تأكدت المعركة وفي الثانية لم يحسم التوافق ولا التحالف، ينتظر الحريري معركة قانون الانتخاب وتقسيمات الدوائر بالاضافة الى اعادة النظر بالتحالفات التي اظهرت انه في حاجة لها في الاستحقاقات اكثر من اي وقت مضى.