هي ليست بيروت الشهيد رفيق الحريري. حتمًا هي ليست تلك البيروت التي تهتف باسم الغالي مجتمعة وهو ما لم يُفلح الابن في الانتشاء به أقله عند “الحزّة الانتخابية”. توقع الرئيس سعد الحريري الفوز لكنه لم يتوقع أن يكون مرًّا الى هذا الحدّ.

تسعة آلاف صوتٍ ما هي سوى “فستق” في الحسابات الانتخابية بالنسبة الى محافظة كبيروت، اقترع فيها أقل من ربع السكان ليتبيّن أن أكثر من ثلث المقترعين قرروا أن يقولوا “لا” صريحة للائحة البيارتة.

اختلفت بيروت...

لم يُجدِ كلّ ما فعله الحريري من حملات و”اسكتشات” نفعًا، ولا حال دون أن يسرق منه أبناء المجتمع المدني أكثر من 32 ألف صوت، كان هو أحقّ بها في الماضي القريب أي منذ ما لا يتجاوز السنوات الستّ، ولو انضمّ الوزير السابق شربل نحاس اليهم لسرقوا من “البيارتة” نسبةً خارج الحسبان. اختلفت بيروت كثيرًا على من هجرها قسرًا وأمّها طوعًا. اختلفت بيروت كثيرًا على سعدالدين رفيق الحريري حدّ التمرُّد على من اعتبره أقله ثلاثة أرباع أهلها أنه تخلى عنهم في ليلةٍ هوجاء بدافعٍ أمني. حتمًا هي ليست بيروت التي أرادها الحريري الابن لنفسه ولجمهوره الذي ما زال متأثرًا بشهادة الأب “المُفضِل” على كثيرين. اختلف مزاج العاصمة لا سيما الطرف المسيحي منها. نقمت الدائرة الأولى على سياسة البلدية التي تنهل من “الحريرية” الكثير لتفعل القليل. هنا غُصّة الحريري المقتنع بأنه طُعِن من مسيحيي العاصمة مرّتين: مرّة عندما أوهموه بأنهم متحالفون معه ومرّة عندما أنزلوا في تلك الصندوقة ورقة مضادة.

... وفي المناطق الأخرى؟

بغضّ النظر عمّا حققته “بيروت مدينتي” منفردة وما اجتذبته من تعاطفٍ جماهيري في أوساط الجميع لا سيما لدى من “نفّرهم” شعار حملة البيارتة “الاحتكاري”، كيف سيدير الحريري معاركه في المناطق الأخرى التي يبدو التزاحم فيها أكبر وأكثر جدّية من بقعة الأمان أو ما كان يُفترض أن يكون بقعة أمان تُجسدها بيروت وما عادت كذلك؟ اليوم باتت الصورة واضحة في عقول “المستقبل” على ما يهمس في أذن كلّ مقرّب سائل عن سبب بروز أبناء المجتمع المدني المغمورين على حساب “بيارتة” التمويل والجاه والشهادات. ألمح اليها الحريري في شتى الأحوال، ما استطاع بلعها عندما وشى بأن التشطيب من قبل الحلفاء هو الذي أدى الى مزاحمة “بيروت مدينتي” للائحته الائتلافية، والتشطيب هنا يصبّ في الدائرة الأولى تحديدًا وهي الدائرة التي تحتضن النسبة الأكبر من التصويت المسيحي المنقسم بين القواتيين والعونيين والكتائبيين. قد تهضم معدة الحريري تنصّلَ التيار الوطني الحرّ من اللائحة الجامعة ولجوءه الى لعبة التشطيب السريّة، بيد أنها لا تقبل البتة ولن تقبل فعلة القواتيين الذين يبدو أنهم هدّؤوا من روعهم وأراحوا نفوسهم عندما علموا أن ما فعلوه مع بسمةٍ شريرة هو الطريقة اليتيمة لردّ الصاع صاعين ولتهبيش اعتبارهم من “المستقبل” يوم تجاهلهم رئيسُه ورشّح سليمان فرنجية رغمًا عنهم ومن وراء ظهورهم، ويوم قرر دعم لائحة مضادة في زحلة في وجه الائتلاف المسيحي.

استحقاقان-اختباران

ليست العبرة في ردّ الفعل القواتي وفرضية ردّ “المستقبل” عليه في أقرب فرصةٍ سانحة، فالمعضلة الأقرب الى الهاجس بالنسبة الى الحريري اليوم تكمن في إشكالية إدارة شارعه من قريب أو بعيد. وإذا كانت معركة بيروت أصبحت من الماضي وهو ما لن يحصل طالما أن لائحة الـ32 ألف صوت “ستستقوي” في المحاسبة والملاحقة وطالما أن هناك أعضاء في البلدية الجديدة سينخرون رأس كلّ من يحاول التلاعب، يبدو أن المعارك الشبيهة لم تنتهِ بعد إذ يبقى أمام الحريري استحقاقان واختباران لقدرته التمثيلية في كلّ من الشارعين السنّيين الأساسيَّين: طرابلس وصيدا، حيث يبدو الاحتدام في كليهما قائمًا حتى إشعار آخر.

لم يكن يتوقّع

يراهن كثيرون من خصوم الحريري في السياسة على أن “واقعة” بيروت “كسرت ظهر” الرجل رغم أنه في الحقيقة وعلى أرض الواقع فائزٌ وظافرٌ بفارق كبير، بيد أن المفارقة لا تكمن في الفارق الرقمي أيًا يكن، بقدر ما تتجسد في حقيقة أن الزعيم السني الأول لم يكن يتوقّع أن يقف أحدٌ في وجهه أو أن يحصد من التعاطف ما يخوّله نيل 40% من أصوات الشارع البيروتي الذي صوّت منذ ستّة أعوام بالنسبة نفسها ولكنه منحه نسبة وفاء وتأييد أعلى بكثير. ولا تقف التحدّيات عند هذا الحدّ إذ يعلم سيّد بيت الوسط خير علمٍ أنّ في البلدية أعضاءً عونيين وقواتيين وطاشناقيين سيكونون أغلب الظنّ مُتعِبين وحجر عثرة في وجه مشاريع جمّة تتماهى مع طموحات تيار المستقبل في العاصمة المحسوبة عليه. وإذا كان الشارع المسيحي هو الصافِع، فلم تكن حال الشارع السني في الدائرتين الثانية والثالثة أكثر شفاعةً بعدما فضحت نسب التصويت والفرز على السواء هشاشة التأييد في كلتا الدائرتين.

حجم "الصفعة"

اليوم ما مضى قد مضى، وبالنسبة الى الحريري وتياره هي واقعة ديمقراطية أتت في صالحهم خيرٌ من ألا تأتي بعدما كان على الرجل العائد أن يتوقّع الأسوأ وأن يقطف ثمار سياسته “التغرُّبية” طوال سنواتٍ وربما أن يدفع ثمن إغراق العاصمة في نفاياتها اليوم وتهجير معظم ناسها في الأمس، مع أنه لم يكن مسؤولًا مباشرًا لا عن هذه ولا عن تيك... وحدها المعارك الحامية في مناطق أخرى والخلافات الداخلية في أحزابٍ أخرى والتصدّعات في التحالفات الناشئة قد تخدم الرجل “المستقبلي” لا على مستوى إصلاح ما خربته الأيام الجوفاء بل فقط في إشاحة النظر قليلاً وظرفيًا عن حجم “الصفعة” التي “أكلها” في بيروت الوفيّة.