لن يطول التهاء اللبنانيين بالانتخابات البلدية والاختيارية، ونتائجها، التي أُنجز قسم كبير منها بالتزكية، كتعبير عن رفض فكرة الاحتكام إلى أصوات الشعب من الأساس، حتى يتم إدخالهم في ملهاة جديدة تضعهم في دائرة "جدل بيزنطي"، تحيّرهم بين القبول بأولوية إقرار قانون انتخاب حديث، وانتخاب مجلس نيابي جديد على أساسه، وبين أولوية انتخاب رئيس للجمهورية، من قبَل مجلس نيابي غير منتخَب من الشعب، مدَّد لنفسه مرتين، بما يسمح له بولاية كاملة حتى 20 حزيران 2017.
أوساط سياسية لبنانية ترى أن بعض الطبقة السياسية اضطر إلى القبول بإجراء انتخابات بلدية واختيارية، لإلهاء الناس عن فضائح النفايات وسمسراتها، وفضائح "الإنترنت" والاتصالات غير الشرعية وسرقاتها، وكذلك عن فضائح الفساد داخل مؤسسة قوى الأمن الداخلي، التي كان الفضل والجرأة لمديرها العام اللواء بصبوص في سحب الغطاء عنها، حتى اضطر بعض الطبقة السياسية الصانعة لهذا الفساد، إلى مجاراة الناس في القول إن النظام في لبنان منهار، ولا دولة فعلية فيه، بعد أن أكل الفساد الأخضر واليابس من خيراته.
وتقول تلك الأوساط إن إجراء الانتخابات البلدية، وكذلك الانتخابات الفرعية النيابية في قضاء جزين، كشف كذب حجج وأسباب التمديد المعلَنة للمجلس النيابي، لأن السبب الفعلي الذي بات معروفاً من قبَل اللبنانيين، أن بعض أهل السلطة يرفضون إجراء الانتخابات النيابية في ظل الشُحّ في السيولة المالية التي يعانون منها، والتي ووجهت باستنكاف شرائح واسعة من الناخبين، ممن اعتادوا تلقّي المال السياسي والانتخابي، عن التوجُّه إلى صناديق الاقتراع، كما أن هذا الشح، في الوقت نفسه، أضعف الموقف التفاوضي للجهات التي تعوّدت على تشكيل "محادل نيابية"، ولوائح بلدية معلَّبة، حتى بتنا نرى مشهداً لا تصدّقه الأعيُن في انتخابات بلدية بيروت، كمثال، حيث تحالف فيها الأضاد، فيما تحاربا في أماكن أخرى، بكل قواهما!
وتلفت الأوساط إلى آخر عروضات المسرح السياسي المفتوح، والمتراوحة بين مبادرة رئيس المجلس النيابي المثلَّثة الأضلاع، والرامية إلى إيجاد مخرج للأزمة السياسية، القائمة على عقم إعادة تكوين السلطة، من خلال التمديد، وتعطيل التشريع في الوقت نفسه، من خلال تعطيل عمل مجلس النواب، ومحاصرة عمل الحكومة بشروط وشروط مضادة، وبالتالي إعدام النظام، الذي لم تبقَ منه غير روائح الفساد التي أزكمت كل الأنوف، وبين التصريحات المتكررة لوزير الداخلية نهاد المشنوق، والمعبِّرة عن موقف "تيار المستقبل" وحلفائه، والرافضة لإجراء الانتخابات النيابية قبل انتخاب رئيس للجمهورية، وكأننا في خلاف بين من يريد وضع الحصان أمام عربة معطَّلة، وبين من يريد أن تجرّ العربة الحصان.
لكن الخطير، برأي الأوساط السياسية ذاتها، أن أركان الطبقة السياسية المتحكِّمة برقاب البلاد والعباد، يتّجهون إلى تمرير حيلة لإطالة عمر احتكارهم للسلطة والحكم، وتجديد نظامهم وفق شروطهم، وبما يناسب مصالحهم، وقطع الطريق على إمكانية مشاركة باقي القوى الفاعلة في الحكم، والتي يتيحها نظام الانتخاب النسبي، فيما لو أُقرّ، وهذه الحيلة ليست سوى الترويج لـ"قانون الانتخاب المختلط"، الذي هو في حقيقة الأمر إعادة تفصيل ورتق لعورات قانون الستين السيِّئ الذكر، الذي يوجد شبه إجماع لبناني على رفضه والتخلُّص منه، باتجاه إقرار قانون حديث يعتمد النسبية والدوائر الواسعة، لأن قانون الستين وضع السلطة بأيدي من يحصل على 51 في المئة من المقترعين، وهم القلة من الناخبين، وجعل أكثرية اللبنانيين خارج دائرة التمثيل، لأن معظمهم يستنكف عن المشاركة في انتخابات لا تحمل أي أمل في التغيير أو في محاربة الفساد والفاسدين، وقد جاءت الانتخابات البلدية والاختيارية، وانتخاب نائب جزين، لتحمل رسائل بالغة الأهمية عن حاجة النظام والطبقة السياسية إلى الشرعية الشعبية لتعويم أنفسهم، ولإعادة الروح إلى مؤسسات الدولة والحكم، ما يطرح استفهاماً كبيراً عن المانع من إعادة الروح إلى موقع رئاسة الجمهورية، عبر الاحتكام إلى الناس، وجعل اختياره بأيدي اللبنانيين، فيوضع بذلك حد لعار انتظار المبادرات والحلول الخارجية، فرنسية كانت أم عربية، وتعاد الكرامة لدولة ونظام لم يرَ فيه أربابه سوى سوق للسمسرة، وباب للسرقة والإثراء السريع.