من المنصف القول ان تركيا باتت اليوم في وضع دقيق لم تشهد مثله في تاريخها المعاصر، حيث انها وصلت الى مفترق طرق، وعليها اتخاذ قرار سيؤثر حتماً على مستقبلها للسنوات المقبلة.
لم تكتفِ تركيا بمعاداة ​روسيا​، بل "استفزت" الولايات المتحدة الاميركية واوروبا بموضوع اللاجئين السوريين، وحوّلتهم الى "سلاح دمار شامل" مسلط على القارة العجوز. هذا الامر اعتبرته السلطة التركية ورقة في يدها، بينما نظر اليه الاوروبيون على انه مصدر خطر لا يمكن القبول به، لذلك كان القرار بـ"مسايرة" انقرة فترة من الوقت، وارسال رسائل لها في الفترة الاخرى تفهمها انه لا يمكنها ابتزاز الدول الاوروبية بهذا السلاح لانه يتعلق باستقرار امنها واقتصادها وقد يصل حتى الى مستوى الخطر الوجودي.
شيئاً فشيئاً، بدأت واشنطن والعواصم الاوروبية ردها على التهديد التركي، فدغدغ الاوروبيون مشاعر الاتراك بمسألة انضمامهم الى الاتحاد الاوروبي، وهو حلم تركي يراود الرئيس التركي الحالي رجب طيب اردوغان منذ وصول حزبه الى السلطة. ولكن الشروط الاوروبية كانت قاسية واستهدفت السلاح نفسه الذي استعمله اردوغان، اي اللاجئين، الى ان قررت تركيا عدم تلبية الشروط، فابتعدت خطوات عن مسيرة الانضمام الى الاتحاد الاوروبي.
بعد ان تطلع النظام التركي شمالاً ويميناً، لم يجد في الدول القريبة منه والبعيدة سوى روسيا من ناحية التشابه السياسي. فالدب الروسي غير مستحب من اوروبا، وترى فيه اميركا تهديداً لها ولو انها تتعامل معه عند اللزوم حين تتقاطع المصالح، ويمكن لموسكو ان تكون مفيدة لانقرة في هذا الوقت خصوصاً من خلال ضلوعها في الازمة السورية وتحولها الى لاعب اساسي فيها لا يكن حل او ربط اي قرار دون التشاور معها فيه.
الا ان العقدة الاساس كانت في ان اردوغان "افتعل" مشكلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وادارته، ولم يعد يعرف كيفية التخلص منها، وهو لا شك يبحث عن طريقة ما لتحقيق هذا الهدف مع المحافظة على ماء الوجه، الا ان محاولاته باءت بالفشل حتى الساعة. في المقابل، لا تبدو موسكو مستعجلة لفتح الابواب امام تركيا، وهي ترغب في "اذلالها" واذاقتها مرارة المواجهة معها.

واتت معركة "منبج" لتزيد "الطين بلة" بالنسبة الى تركيا حيث بات الاكراد، وبموافقة اميركية-روسية-اوروبية، على بعد كيلومترات منها، وبدأوا يرسمون حدوداً مبدئية ومفترضة لدولتهم التي ستكون مجاورة لعدوتهم اللدود، فيما بدا الغليان يعتري السلطة التركية.
وتعرض اردوغان وحزبه لطعنة اخرى مؤلمة من الناحية السياسية تمثلت باعتراف البرلمان الالماني بالابادة الارمنية، رغم اعتراضات تركيا والرسائل التي ارسلتها لالمانيا والشعب الالماني والتي وصلت الى حد التهديد بتأثر العلاقات بين البلدين بسبب هذا القرار.
لكمة تلو الاخرى يتلقاها النظام التركي، وهو يتطلع الى روسيا بعين الحسرة، علها تكون "طوق النجاة" الذي سيرمى له في اللحظة الاخيرة لانتشاله من الغرق من مستنقع السياسة الخاطئة التي سيطرت على افكار وآراء الحكومة التركية. من هنا، كان كلام اردوغان عن انه لا يعرف من اين يبدأ لاصلاح ذات البين مع روسيا، لانه يعلم تماماً انه يمكن لموسكو ان تكون معبر الامان لتركيا، فتضعها الى جانبها لتؤمن لها ما لا يمكنها ان تؤمنه بنفسها لناحية المطالب والحصص عندما تنتهي اسطورة "داعش" وتصل الامور الى عتبة المفاوضات النهائية لرسم صورة المنطقة بعد التخلص من "داعش" وترتيب امور المعارضة السورية التي بدأت تأخذ شكلها الاخير، واصبحت محط ثقة ادت الى تسليمها الدور الاهم في المعارك الاخيرة وخصوصاً في معركة "منبج".
هل ستتمكن تركيا من جذب طوق النجاة الروسي اليها، ام انها ستقوم برد فعل جديد سيبعد الجميع عنها ويضعها وجهاً لوجه امام مصير مجهول تحدده لها الدول الكبرى؟