بعد ما يقارب العامين ونصف العام بلا رئيس للجمهورية اللبنانية، قال رئيس اللقاء الديمقراطي ​وليد جنبلاط​ ان (الرئيس السوري) "​بشار الأسد​ ليس مستعجلا التسوية في لبنان ولن يقدم على تسهيل طريق الرئاسة من دون مقابل... أي ريثما يستقر الرئيس الجديد في البيت الأبيض"، معتبرا في حديث صحفي أن الرئيس السوري "يتصرّف منذ الآن كمنتصر". هذا اعتراف مهم وخطير من رجل كان منذ بداية الأحداث في سوريا عام 2011 يجاهر بأنّ رحيل الأسد مسألة أيام وبأنه ينتظر جثته عن حافة النهر.

بغضّ النظر عن مألوف جنبلاط من التكييف مع الوقائع وتبديل المواقف وزئبقيته، فان الأهم في الأمر هو تعويمه الدور السوري في اختيار رئيس للجمهورية، أي العودة الى ما قبل الحرب السوريّة. فهل الرئيس الأسد هو فعلاً من سيختار الرئيس المقبل للبنان؟ ومتى وكيف؟

يبدو أننا فعلا أمام مشهد جديد في المنطقة منذ توقيع الاتفاق النووي الايراني مع الغرب، مرورًا بالانخراط العسكري الروسي المباشر في الحرب السورية، وصولاً الى مرحلة تغيير المعادلة العسكرية على الأرض من قبل الجيش السوري وحلفائه، وفي طليعتهم حزب الله وروسيا وايران. واذا ما استمرت وتيرة التطورات على ما تشي به من حلب وأريافها، فهذا يعني ان الخيار الروسي الايراني السوري سيفرض نفسه مهما كانت الظروف. هذا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي كانت له اليد الطولى في تدمير سوريا وتسهيل مرور الإرهاب والمسلحين ونهب المصانع، يذهب مطأطأ الرأس الى موسكو طالبا العون.

ماذا في الخلاصات؟

- انتقل العالم من المقولة الببغائية حول "رحيل الأسد" الى مرحلة التكييف معه. صار جزءا من الحل المقبل لا بل الجزء الأهم حتى ولو استمرت بعض التصريحات الوهمية عكس ذلك.

- انتقلت ايران من مرحلة "دولة الشر" الى شريك في محاربة الإرهاب على الأرضين السورية والعراقية وهي مطلوبة أكثر من أي وقت مضى لتسهيل الحل السياسي. فما ان يغادر وفد أوروبي حتى يصلها المبعوث الدولي ستيفان دي مستورا طالبا المساعدة.

- انتقلت الحرب السورية من شعارات رنانة حول الحرية والديمقراطية ورحيل النظام، الى مواجهة حاسمة بين الجيش السوري وحلفائه من جهة والإرهاب وحلفائه من جهة ثانية. لا بد ان يُهزم الإرهاب لأنه تخطى الأدوار المرسومة له وها هو يضرب في العمق الغربي. صار التعاون الأمني الغربي السوري أولوية.

هذا يفترض البحث عن تسوية سياسية مقبولة في سوريا وتحفظ ماء الوجه الاميركي (أما الأطراف الإقليمية الدائرة في الفلك الاميركي فتبقى في نهاية المطاف مجرد بيادق). المعروف حتى الآن ان السقف المقبول سورياً وروسياً وايرانياً للحل السوري هو حكومة موسّعة تضم بعض المعارضة والاتفاق على دستور جديد وانتخابات دون وضع شرط مسبق حول ترشح او عدم ترشح الأسد.

لبنان في الواقع مرتبط بهذا الحل. فكلما اتجه الامر الى تسهيل الحلّ السوري، كلما وافقت دمشق وحلفاؤها على تسهيل الحل اللبناني. هذا بالضبط ما يقلق دولا إقليمية في المنطقة وفي مقدمها السعودية وقطر. لذلك دخلت الرياض على بازار الرئاسة، فحاولت تارة جذب رئيس تكتّل "التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون صوب رئيس تيّار "المستقبل" النائب ​سعد الحريري​ (ولكنها فشلت نظرا لصلابة التحالف بين عون وحزب الله ولأنّ عون لا يريد ان يكون رئيسا لنصف لبنان وانما للجميع ثم لأن السعودية لا تريده في قرارة نفسها وهي ناقمة عليه منذ اتفاق الطائف وتعتبره اليوم سندا للحزب والمقاومة) وتارة أخرى سعت الى ضرب التحالف بين قوى 8 آذار فحاولت اغراء رئيس تيّار "المردة" النائب ​سليمان فرنجية​.

فشل الخياران. وفي المعلومات ان الرئيس بشار الأسد حين استقبل رئيس تيار المردة سليمان فرنجية الذي أطلعه على رغبته بلقاء رئيس تيار المستقبل سعد الحريري طرح عليه السؤال التالي: "لماذا تعتقد ان السعودية تنفتح عليك وتقبل برئيس قريب لنا ولحزب الله؟" وجرى عرض مطول حول الفخ الذي يمكن ان يكون منصوبا، لكن الأسد وعلى جري عادته لم يعترض وقال ان سليمان فرنجية والحلفاء يعرفون مصلحتهم وانه يثق بهم ويترك لهم الخيار.

صحيح ان بعض الغموض والشكوك ساد لفترة بين فرنجية وحزب الله الذي لم يستسغ كثيرا طريقة اللقاء بين فرنجية والحريري في باريس، ولا ما دار فيها ولا كيفية اطلاع الحزب على فحواها، لكن في نهاية المطاف فان فرنجية وعون هما حليفان قويان للحزب ودمشق، وكان كلام الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله عنهما في أكثر من مناسبة عميق الالتزام.

ما قاله جنبلاط صحيح. الان أميركا مقبلة على الرئاسة. وأي صفقة حول الرئاسة اللبنانية تتم معها. وثمن الصفقة يجب ان يكون في سوريا، لا في لبنان. هذا يفترض توافقا روسيا اميركيا، واذا ما رأت اميركا ان مصلحتها المقبلة هي تسهيل الحل السياسي في سوريا فلن تقف السعودية أو غيرها عائقًا امام الذهاب صوب صفقة معينة.

هكذا كانت الصفقات تحصل لانتخاب رئيس للبنان، ومن لا يصدق، فليعد الى مذكّرات الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، حيث يشرح كيف ان الرئيس السوري السابق حافظ الأسد أرسل اليه لائحة بخمسة أسماء وهو اختار منها الرئيس السابق اميل لحود بمباركة سورية. وهكذا كانت سوريا وأميركا سابقا تختاران الرؤساء. وقد تعودان الى ذلك.

أما سعد الحريري، فعنده من المشاكل الماليّة والتجاهل السعودي ما سيدفعه الى القبول بأي رئيس لأنه صار وأكثر من أي وقت مضى بحاجة الى مشاريع اقتصادية. وأما ايران فهي أوكلت منذ زمن بعيد شأن الرئاسة اللبنانية الى السيد نصرالله ولا تتدخل فيه. والحزب كما هو معروف لن يأتي بأيّ رئيس الا اذا كان حليفا له ولسوريا.

كل ما تقدم سيكون صحيحا، اذا كانت اميركا متجهة لصفقة مع روسيا وعبرها مع سوريا، اما اذا ارادت استمرار المواجهة، فان لبنان سيبقى بلا رئيس لفترة غير قصيرة. وحتى ذلك الحين فجنبلاط محقّ تماما بان الأسد يتصرف كمنتصر. لا بل قد يكون، ولسوء حظ جنبلاط، قد انتصر فعلا.