- يعرف الرئيس سعد الحريري ما كان يعرفه الرئيس التركي رجب أردوغان عندما قرّر الاعتذار من موسكو والانعطاف في موقعه من الحرب السورية نحو تموضع جديد، أنه القاطرة التي تشكل استدارتها تغييراً في وجهة القطار الذي يستقله حلفاؤه والذي يستطيع عندما يحدّد وجهته التأثير بخيارات ومواقع وأوزان الجميع الذين يملك بعضهم أكثر منه من الأوراق، لكنهم يعلمون أنه خط التماس والخندق الذي يطلقون من ورائه رصاصاتهم في الحرب السورية، بالنسبة لأردوغان وفي الحرب على حزب الله بالنسبة للحريري، كما يعلم الحريري ما كان يعلمه أردوغان في اللحظة التي يشهر فيها نيته بالتموضع أنه محصّن بما بذله في هذه الحرب التي يشكل الخط الأمامي فيها، ضدّ كلّ أنواع المزايدة من حلفائه، الذين سيتردّدون كثيراً قبل تنظيم حملات اتهامه بالخنوع والخضوع، لكونه قادراً على الردّ بطلب كشف حساب بما قدّم وما قدّموا. فما فعلته تركيا وما ذهبت إليه في الحرب على سورية يشكلان نصفها، وما فعله الحريري وما ذهب إليه في الحرب على حزب الله يشكل نصفها.

- تقول تجربة الرئيس التركي التي شكلت مدرسة الحريري للنقلة التي يستعدّ لها في الخيار الرئاسي اللبناني، انّ الانتقال من خيبة وإحباط الشعور بالتهميش والنكران والتجاهل من الحليفين الدولي والإقليمي الكبيرين في واشنطن والرياض، إلى الوقوف في ساحة الفعل بنصف تموضع، سيضعه في دائرة الضوء مجدداً، وتحت عروض متقابلة، تتيح له هوامش الخيارات بالتعامل مع متغيّرات يصعب التنبّؤ بها، شرط الحفاظ على التوازن وقدرة المبادرة، وعدم إحداث الانتقال الذي يقطع الجسور مع أيّ من ضفتي الاشتباك، والحفاظ على خصوصية محلية تقيم حساب مصالحها هي للتفاعل مع ما يجري على كلّ من الضفتين المتقابلتين بالمفرق وليس بالجملة، وبالخطوات لا بالخيارات، فتتفق هنا مرة وهناك مرة أخرى، لكنها عندما تتفق هنا تنسق مع هناك، والعكس بالعكس.

- كمثل حالة أردوغان يصعب القول إنّ النقلة الحريرية في الشأن الرئاسي اللبناني نحو فتح الباب لخيار وصول العماد ميشال عون إلى قصر بعبدا، اعتذار يقدّمه لحارة حريك، كتعبير مشابه عن ذهاب أردوغان إلى موسكو معتذراً، لكن الاعتذارين لا يمكن وصفهما بالتموضع التركي مع موسكو ولا بالتموضع الحريري مع حزب الله، كما لا يمكن وصفهما رسالتين أميركيتين أو بالنيابة عن حلف واشنطن الرياض إلى موسكو أو إلى حارة حريك، ولا بالمؤشر على قرار إبرام التسويات الكبرى، وفي المقابل لا يمكن القول إنّ ذلك تعبير عن البقاء على خطوط القتال والثبات عند رؤية واضحة لمسار الحرب، فالاعتذاران علامتان على جبهة تصاب بالشلل والعجز، وتترك الرؤوس فيها الأطراف للتهميش والتجاهل، ويصيب التفكك فروعها، ليتخبّط كلّ من موقعه وحساباته، في صياغة خصوصية من ضمن الموقع الأصلي، وبالتخاطب معه والتفاوض معه عبر مفاوضة الخصوم، ومفاوضة الخصوم بالنيابة عنه أو بديلاً منه، بحدود طول خط النار الذي تتولى، أو كانت تتولى إشغاله، وبدلاً من ان تكتفي بانتظار نصيبها من سداد فواتير الخسائر تسارع لحجز مقعد انتقالي في صفوف تقاسم أنصبة بوالص التأمين.

- منع قيام شريط مستقبلي على حدوده السياسية شغل الحريري الشاغل، وهو شريط ينمو ويكبر بدعم حليفته وحاضنته السعودية، كمثل منع قيام شريط كردي على الحدود الجغرافية لتركيا كان يكبر وينمو برعاية ودعم الحليف الأول لأنقرة في واشنطن. وقد باءت كلّ محاولات التمني والصراخ بالفشل في استدراج الإصغاء ومدّ يد العون والكفّ عن الضرب تحت الحزام، ومثلما احتاج اردوغان إلى الانقلاب العسكري احتاج الحريري إلى الانقلاب البلدي، لاكتشاف أنّ غولن محمي في واشنطن وليس في موسكو، وريفي مسانَد من الرياض وليس من حارة حريك، والحراك عند حدود الأولوية لمنع قيام الشريط السياسي أو الجغرافي لا يعلن أردوغان مغادرة الحلف الذي تقوده واشنطن ولا يعلن الحريري مغادرة الحلف الذي تقوده الرياض، بل يقدّمان أوراق اعتماد جديدة لدور جديد، منفتح على عدو الأمس، في قلب التفاوض معه، ممسك بالعصا من الوسط، قادر على المناورة، يختار جرابلس ليتقدّم، وعندما يسمع الإنذار يتوقف، يتمهّل، يبحث عن جرابلس أخرى، لكنه لا يذهب منفرداً لتسويات كبرى في القضايا التي يعترف أنها أكبر من حجم دوره، الذي كاد يصير صفراً، وكان سيصير كذلك لو ارتضى الانتظار، لكنه استعاد الدور كضرورة قادرة على منح التسويات والمواجهات قيمة مضافة، ولو بدراية وعناية، تفرضهما الوضعية الجديدة التي يشكل التفريط بها نهاية مدوية، وأول طريق التفريط ارتكاب خطيئة العبث بشروط التصالح مع عدو الأمس، في موسكو أو حارة حريك، لأنه عندها سيلقى التهميش المزدوج من حلفاء الأمس وشركاء اليوم، وشماتة كليهما ومعهما الكثيرون.

- الفارق كبير بين الحريري الذي اختار ترشيح النائب سليمان فرنجية للرئاسة بغطاء سعودي أميركي فرنسي، والحريري الآتي بانفتاح على خيار عون الرئاسي. فهو هذه المرة لا يمثل حلفاءه في واشنطن والرياض وباريس، وربما لم يردّوا على أسئلته وطلباته سعياً لاستشكاف موقفهم، ولا يمكن قراءة حركته إلا تعبيراً عن عجز حلفاء الحريري عن تقديم وعود بالانتظار، أو بجديد بين أيديهم، وهو يضعف ويذبل سياسياً وشعبياً ومالياً، والرياض وواشنطن ليستا بأحسن حال، وما يجري في سورية واليمن يقول إنّ دفاتر شروط التسويات والحروب لم تعد بين أيديهما. وكلما اقتربت النهايات صار لبنان خارج نطاق البحث وقدرة التأثير، ويعلم الحريري أنه يستطلع بالنار عبر مبادرته لحساب حلفائه في واشنطن والرياض حدود ما سيُعرض عليهما في مشاريع التسويات الكبرى، فالمفاوض في لبنان هو قوة محورية ووازنة في قرار الحلف الذي تقاتله واشنطن والرياض، ويشكل حزب الله رأس الحربة فيه وقيمته المضافة، لكنه يعلم أنه يستطلع بالنار مواقف واشنطن والرياض من مبادرته التي لم تسمعاها كاملة منه، لأنهما لم تتيحا له عرضها، تجاهلاً وتهميشاً، فيكشتف عبر استعراضها بدلاً من عرضها حدود إعادة رسم دوره في حسابات كلّ منهما، ويستدرج على ظهر المبادرة عروضاً لتعديلها، هي ضمناً عروض لمكانة جديدة ودور جديد، كاد يذبل وينتهي.

- لا يستطيع أحد في الخارج والداخل من الذين تشاركوا مع الحريري مبادرته بترشيح فرنجية لومه على تموضعه الجديد، وهو قادر على مواجهة خصوم حزب الله منهم بالسؤال: هل لديكم وصفة لإضعافه كي أنتظرها؟ كما هو قادر على مواجهة حلفاء حزب الله منهم، هل لديكم الاستعداد لتجاهله أو لإقناعه كي أنتظركم؟ وبالجواب السلبي المتوقع لكليهما يملك الحريري، كما امتلك أردوغان مشروعية مبادرته، وهو يقول كما أردوغان إنّ الفرق بيننا أنّ لديكم خطة «ب» تتعايش مع حرب الاستنزاف، بينما أنا لا أتحمّل هذا الخيار، فأنا مَن ينزف، وتستطيعون تقبّل نشوء أشرطة جغرافية أو سياسية على ضفاف الحروب، لكنها بالنسبة لي أشرطة حياة أو موت، لأنها تأكل من اللحم الحي، واليوم يفعل الحريري ما فعله أردوغان، لكنه يقول ما قاله الرئيس الأميركي باراك أوباما دفاعاً عن التفاهم النووي مع إيران، وما يقوله وزير خارجيته جون كيري عن التفاهم مع موسكو عن سورية، «أتمنى مثلكم ألا أوقع هذا الاتفاق أو أن أوقع اتفاقاً أفضل منه، لكن من لديه بديل فليدلّني عليه».

- الفارق بين الحريري وكلّ النماذج التي تشبه موقفه قولاً أو موقعه فعلاً، أنّ كلّ عناصر الطبخة الرئاسية اللبنانية تصير جاهزة بمجرد قوله نعم للعماد عون رئيساً، وأنّ ساعة الرمل تبدأ بالحساب المتسارع لأيام، وليس لأسابيع، فإنْ تأخر بقول النعم سقط سقوطاً مدوياً، وإنْ تلعثم في ترجمة مفاعليها فقد بريق خطوته وعاد إلى التهميش، وأصابه مع فرنجية ومَن يدعمون وصوله ما أصابه من قبل يوم فقد حلفه مع رئيس حزب القوات اللبنانية بترشيح فرنجية، ولكن دون أن يكسب هذه المرة دعم مفاوضيه الذين بدأ للتوّ بالتعامل معهم كشركاء جدد.

- انضمام الحريري لنهاية المشوار إلى قاطرة وصول العماد عون إلى قصر بعبدا، مسألة أيام وتتحوّل إلى إحدى نتيجتين، إنجاز كامل للاستحقاق الرئاسي مشفوعاً بسلة تفاهمات حول القضايا الرئيسية المرافقة للرئاسة من حكومة وقانون انتخاب وقيادة جيش وسواها، وهذا معناه أنّ الأميركي والسعودي قد فقدا أيّ أمل بتغيير معادلات سورية ولبنان، ولا يملكان قدرة التفاوض، لكنهم سيوظفان عدم العرقلة لاحقاً في التفاوض الآتي، أو أن يتوقف الحريري في منتصف الطريق، ولا معرقل محلي لمواصلة مسير الحريري، والتفسير الوحيد هنا هذا لتمنُّع الحريري عن مواصلة السير هو تلقيه إشارات واضحة ووعوداً مقابلة من واشنطن والرياض بالتوقف، والاكتفاء بإنشاء منصة التفاوض اللبنانية تمهيداً لنضوج المنصات الموازية في المنطقة حول سورية واليمن وسواهما، وهنا يفقد الحريري لبننته للخيار الرئاسي، لكن الحراك يكون قد انطلق نحو سلال حلول قرارها خارج لبنان بعدما يكون الحريري قد استعمل مفتاحه للقفل الرئاسي لمرة واحدة وتنازل عنه فوراً لسواه.