اعتقد كثيرون أنّ اللقاء الذي جمع رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ ورئيس "تيار المردة" ​سليمان فرنجية​ قبل يومين كان مفصليًا وحاسمًا، وأنّ ما بعده لن يكون كما قبله، وتوقّعوا أن تكون أولى "ثماره" انسحاب "البيك" من السباق الرئاسي، لصالح رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون.

وعلى الرغم من أنّ المؤشرات الأولى التي تلته أظهرت "شبه تخلٍ" عن فرنجية من قبل "المستقبل"، فإنّ فرنجية لم ينسحب. على العكس من ذلك، قرّر أن يمضي في المواجهة بعيدًا، فخرق صمته الطويل وصعّد بوجه "الجنرال" بشكلٍ غير مسبوق، متوقّعاً تكرار سيناريو عام 1988 في حال الاتفاق بينه وبين الحريري.

فما هي خلفيات ودوافع هذا الهجوم المفاجئ من فرنجية في وجه عون؟ ولماذا لا يتنحّى جانباً كما كان قد أعلن في السابق؟

الطلاق واقع...

الأكيد بدايةً أنّ العلاقة بين عون وفرنجية لم تتأزّم خلال الساعات القليلة الماضية، فالطلاق بين الرجلين واقعٌ منذ فترة طويلة، رغم الهدنة الإعلامية التي التزم بها الجانبان، كلٌ لغايةٍ محدّدة في نفسِهِ، لدرجة بات يمكن تصنيفهما في خانة "الخصوم"، وليس "الحلفاء" ولا حتى "حلفاء الحلفاء".

وسواء صحّت النظرية القائلة بأنّ رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري، حين قرّر ترشيح النائب فرنجية لرئاسة الجمهورية، أراد فعلاً زرع بذور الفتنة والشقاق بين "الحليفين"، أم أنّه فعل ذلك عن "حسن نيّة"، في محاولةٍ منه لكسر الجمود وملء الفراغ، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ "مبادرة" الحريري هذه شكّلت "جذور" التوتّر بين الرجلين. هكذا، "انتفض" عون ضدّ "حليفه" لأنّه اعتبر أنّه طعنه في ظهره، بعدما كان قد تعهّد بالوقوف إلى جانبه في معركة الرئاسة، فيما "امتعض" فرنجية بعدما شعر أنّ "حليفه" لم يكترث لحظوظه بالوصول إلى الرئاسة، ورفض حتى الاقرار بوجود "خطة باء" من شأنها إيصال أحد غيره، ولو كان من الخط السياسي نفسه، إلى قصر بعبدا. وفي الحالتين، اعتبر كلٌ من الرجلين أنّ الآخر وقف عائقاً في وجه "طموحه المشروع" بالوصول إلى الرئاسة، بدل أن يكون "المساند الأول" له.

كانت هذه "بداية النهاية" للعلاقة بين "الجنرال" و"البيك"، التي أخذت تتدهور أكثر وأكثر شيئاً فشيئاً، فهما، وإن حرصا على عدم الدخول في سجالاتٍ علنية وحافظا على صمتهما، تاركين لقواعدهما في الوقت نفسه أن تفعل ما يحلو لها على هذا الصعيد، وجدا نفسيهما أكثر من مرّة عالقَين في "حرب مزايدات" استغلّها واستثمرها الأفرقاء الآخرون للتصويب عليهما كما على حلفائهما، الذين يُسجَّل عليهم أنّهم لم يبذلوا جهوداً حثيثة للتقريب بينهما، تارةً لأنّهم يرفضون "الضغط" عليهم، وتارةً لرغبتهم بـ"حصر" الترشيحات للرئاسة في قلب فريقهم السياسي.

الانسحاب وارد؟

عمومًا، وبعيدًا عن الهزّات التي تعرّضت لها العلاقة بين فرنجية وعون، ووصولها إلى حائطٍ مسدود كما يبدو واضحًا اليوم، فإنّ أسئلة كثيرة تُطرَح عن سبب ذهاب فرنجية إلى التصعيد، في وقتٍ كان متوقّعاً منه الانسحاب طالما أنّ فرص وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية باتت أقوى من أيّ وقتٍ مضى، وأنّ الرئاسة باتت قريبة جداً منه.

هنا، لا ينكر المتعاطفون مع فرنجية أنّه سبق أن أبدى استعداده للانسحاب لصالح عون في حال ضمن الأخير الرئاسة، وحصد التوافق الوطني المطلوب لذلك، إن كان الإجماع متعذّراً، وأنّه لن يقف حجر عثرة في طريقه، حتى إذا كان عون لم يفعل الأمر نفسه حين كانت كلّ التقديرات الحسابية لصالح فرنجيّة. ولكنّهم يسألون: "هل باتت الرئاسة بالفعل مضمونة لعون؟ وهل أمّن الجنرال التفاهم الوطني المطلوب على اسمه فعلاً؟ وهل هذه المرّة الأولى التي ينام فيها العونيون على حرير متوهّمين أنّهم سيستيقظون في قصر بعبدا، ليُصدَموا في اليوم التالي بالحقيقة المُرّة التي لا يريدون تصديقها؟ ثمّ من قال أنّ ما يحصل ليس سوى بروباغندا لمواجهة نوايا العونيين بالنزول إلى الشارع، ويبدو أنّها حقّقت أهدافها؟"

ولكن، حتى لو توافرت الإجابات على هذه الاسئلة المشروعة، وهي لا تبدو عملية يسيرة، فإنّ انسحاب فرنجيّة يبقى غير وارد في هذه المرحلة، كما يؤكد هؤلاء، انطلاقاً من اعتباره أنّ مثل هذا الانسحاب لم يعد مُلكَه ولا قراره، طالما أنّ هناك من الأفرقاء من يدعمه، وبالتالي فإنّه يرى أنّ من غير المناسب، من الناحية الأخلاقية قبل غيرها، أن يخرج من الساحة بإرادته، علمًا أنّهم يلفتون انتباه الجميع إلى أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله نفسه قال قبل يومين أنّه لا يحبّذ سحب ترشيح فرنجية.

لماذا التصعيد؟

انطلاقاً من كلّ ما سبق، قد يكون صحيحًا أنّ الأمور لم تنضج بعد، وأنّ الرئاسة لم تصبح في "جيب" عون كما يحلو لأنصاره أن يعتقدوا، وبالتالي فإنّ انسحاب فرنجية قد لا يكون "ضربة معلم". ولكن، إذا كان الأمر كذلك، فلماذا خرق فرنجية سياسة الصمت التي كان ينتهجها في المرحلة الماضية، وهاجم عون كما لم يفعل من قبل؟

للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر بمثابة "فشّة خلق" أو "استسلام"، وقد يُخيَّل للبعض أنّ فرنجية فعلاً، وبخلاف ما سُرّب عن لقائه برئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري، تبلّغ من الأخير قراره شبه النهائي بالتخلي عن ترشيحه لصالح عون، وبالتالي فإنّ الأمور خرجت من بين يديه، والأمل انعدم.

ولكنّ تعمّقاً أكبر بالمسألة وبأدبيّات فرنجية يؤكّد أنّ الأمر أعقد من ذلك، وأنّ تصعيد فرنجية هذا لم يأتِ بطبيعة الحال من الفراغ، وأنّه ليس خطوة فردية، خصوصًا أنّه لم يعد خافيًا على أحد أنه يحصل على التشجيع من "المتضرّرين" من وصول عون، وبالتالي فليس بعيدًا أن يكون تصعيده هذا أتى بالتكافل والتضامن مع هؤلاء، وفي مقدّمهم رئيس المجلس النيابي نبيه بري.

ولعلّ تزامن التصعيد مع إرجاء بري لجلسة انتخاب الرئيس لأكثر من شهر له دلالات أيضاً، خصوصًا أنّ العادة درجت أن يكون الإرجاء لـ21 يوماً فقط، أي ثلاثة أسابيع، إلا أنّ بري ذهب هذه المرة لوقتٍ أطول، بعكس ما كان يعتقد الكثيرون، الذين رجّحوا تقريب موعد الجلسة بالنظر للتطورات. وفي حين يرى البعض أن الفكرة تعود إلى إعطاء الفرصة لمشاورات عون مع الحريري، يلاحظ آخرون أن بري من وراء هذه الخطوة أجهض تحرك العونيين في الشارع، فهم لا يستطيعون الذهاب إلى التصعيد في الشارع في الوقت الذي يتفاوضون فيه مع الحريري من أجل الوصول إلى إتفاق حول الملف الرئاسي.

ولا يبدو رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة بعيداً عن هذا الجوّ، وهو الذي يُعتقَد أنّه يشكّل "رأس حربة" معارضة تبنّي ترشيح عون داخل "كتلة المستقبل"، إلى جانب النائبين ​معين المرعبي​ و​أحمد فتفت​، كما أنّ مسيحيي "14 آذار" دخلوا على الخط أيضاً، وهم الذين لم يخفوا "إحباطهم" من نيّة الحريري دعم عون، خصوصًا بعد التفاهم العوني-القواتي الذي يعتبرون أنّه أتى على حسابهم ولإقصائهم.

حرب باردة

قد لا يكون جديداً القول أنّ العلاقة بين النائبين ميشال عون وسليمان فرنجية وصلت إلى حائط مسدود، وأنّ العودة بها إلى ما كانت عليه قبل "البازار الرئاسي" من سابع المستحيلات.

وعلى الرغم من أنّ الاعتقاد يسود بأنّ العماد عون سينأى بنفسه عن الردّ على تصريح فرنجية، وسيعمّم على المحازبين عدم الانجرار لأيّ مواجهة، خشية أن يؤثّر ذلك على فرصه الرئاسية، فإنّ الأكيد أنّ مرحلة جديدة من "الحرب الباردة" قد بدأت بينهما، حربٌ يبدو أنّها تحصل بـ"الوكالة" لا "الأصالة"!