في الوقت الذي تشهد العديد من المناطق والجبهات في سوريا مُواجهات عنيفة بين الحين والآخر، إلا أنّ ما يحصل في حلب حاليًا يأخذ بُعدًا خاصًا، نتيجة الهجمات العنيفة والواسعة المُتبادلة. وبعد أن تمكّنت المُعارضة المُسلّحة من فكّ الحصار عن مناطق سيطرتها جزئيًا في الأسابيع القليلة الماضية، عاد الجيش السوري وحلفاؤه على الأرض، مدعومين بتغطية عنيفة من سلاح الجوّ الروسي، للإمساك بزمام المُبادرة، لجهة إعادة فرض الحصار على كامل الأحياء الشرقيّة، والبدء بمحاولات إسقاطها. فهل سينجح في ذلك، وما هي تداعيات معركة حلب ككل؟

لا شكّ أنّ النظام السوري مُصرّ على إستعادة سيطرته على كامل مدينة حلب، ليس لأنّها المركز التجاري السابق لسوريا، ولا لأنّها معقل المُعارضة، ولا لأنّها رمز للدعم التركي للجماعات المُسلّحة المناهضة للنظام فحسب، بل لأنّه يرغب في إستكمال السيطرة على كامل المدن والبلدات التي تُشكّل ما صار معروفًا بإسم "سوريا المفيدة" في المرحلة الأولى، للإنطلاق منها إلى مناطق أخرى في مرحلة لاحقة، إضافة إلى تعزيز موقعه التفاوضي في أيّ جولة محادثات مُقبلة. لكنّ لتحقيق هدف إسقاط الأحياء الواقعة تحت سيطرة المُعارضة السورية في حلب، قام النظام بتجاوز "الخطوط الحمراء"، حيث إستعان بقاذفات الجيش الروسي والتي تحمل صواريخ قادرة على خرق الترسانات الإسمنتية والمنشآت المُحصّنة بالرمال والباطون. أكثر من ذلك، ما يقوم به الجيش السوري والقوى الحليفة، هو تنفيذ حرفي لما يُعرف بإسم سياسة "الأرض المحروقة"، حيث أنّه يُنفّذ تدميرًا مُمنهجًا لمدينة أساسيّة من سوريا، وكأنّه يُحارب خارج أرضه! وبالنسبة إلى قدرته على إسقاط المدينة، المسألة حتميّة في حال سُمح له بإستمرار الهجوم الجوّي والبرّي الذي يقوم به حاليًا، على الرغم من أنّ قُدرة الجماعات المُسلّحة المُعارضة على القتال والمواجهة لا يُستهان بها. وهذا الأمر سيجعل هذه المعركة طويلة ودامية، حتى لو أنّ الإمدادات اللوجستيّة للفصائل المُعارضة شبه مقطوعة، وحتى لو أنّ ضغط السُكان المدنيّين المُحاصرين يؤثّر سلبًا أيضًا على قدرة المُعارضة على المُواجهة. ولا يمكن إسقاط إحتمال قيام المعارضة بهجوم آخر من أرياف حلب في إتجاه المدينة، في محاولة جديدة للوصول إلى الجماعات المُعارضة المُحاصرة، حيث أنّ إطالة فترة المعارك يفتح الباب على الكثير من السيناريوهات.

وفي كلّ الأحوال، من الواضح أنّ النظام السوري، ومن خلفه روسيا الإتحادية وإيران، يتصرّفون بشكل أحادي غير مُنسّق مع جهات أخرى، ويُحاولون تحديدًا رسم خريطة جديدة على الأرض، وفرض أمر واقع يُظهر بدون أدنى شكّ تفوّقهم العسكري، ويضعهم في موقع قوّة على طاولة التفاوض. وهم لا شكّ يستغلّون في هجماتهم الأخيرة الفراغ على مُستوى الإدارة الأميركيّة بحُكم قرب إستحقاق إنتخابات الرئاسة وإنتقال السُلطة في البيت الأبيض، والبلبلة السائدة على مُستوى قيادات الدول الخليجيّة الداعمة للمُعارضة بحُكم الخلافات مع واشنطن وإستمرار حرب اليمن وتراجع القُدرات المالية عُمومًا، والتلكّؤ التركي الناجم من أولويّات مُختلفة على الساحة السورية، إلخ... لكنّ عنف المعركة، وعدد الضحايا الذي تسبّبت وتتسبّب به، وحجم الدمار الذي خلّفته وتُخلّفه، لا يُمكن أن يمرّ من دون ضُغوط دَوليّة لوقف الهجمات. وفي حال إقتصرت الإجراءات الدَوليّة على رفع الصوت إعلاميًا وعلى بعض الإجراءات الشكليّة، فإنّ سُقوط حلب سيتحوّل عندها إلى مسألة وقت.

وفي كل الأحوال، إنّ شراسة الهجوم الذي يُنفّذه الجيش السوري والقوى الحليفة منذ نحو عشرة أيّام حتى اليوم، وطبيعة الأسلحة المُستخدمة فيه، وعدم إستثناء المدنيّين والمُستشفيات، يُمثّل بحدّ عينه تجاوزًا لكل "الخطوط الحمراء"، الأمر الذي سيكون له تداعيات على مُجمل الحرب السوريّة. والردّ المُرتقب سيكون عبر تجاوز مُماثل لهذه "الخطوط" من جانب الجهات التي تدعم مُعارضي النظام، خاصة لجهة تمرير أسلحة نوعيّة لم تكن بحوزة المُعارضة سابقًا. والمسألة لا ترتبط هنا براجمات صواريخ "غراد" أو ما شابه-كما تردّد إعلاميًا في الأيّام القليلة الماضية، بل بتمرير صواريخ أرض-جوّ تُطلق عن الكتف ويصل مداها إلى نحو 8 كيلومترات، الأمر الذي من شأنه أن يُغيّر قواعد اللعبة، باعتبار أنّ الجيش السوري يستفيد منذ بداية الحرب من سلاحه الجوّي، وهو عزّز هذا التفوّق مع التدخّل الجوّي الروسي منذ نحو السنة. إشارة إلى أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة كانت لا تزال حتى الأمس القريب تضع "فيتو" على تسليم أيّ فصيل مُعارض أسلحة مُضادة للطائرات، خوفًا من وقوعها في أيدي جماعات إرهابيّة، وبالتالي خشية إستخدامها لإسقاط طائرات مدنيّة تابعة لها أو لمُطلق أيّ دولة في العالم.

في الختام، يُمكن القول إنّ النظام السوري ومن معه، يُسابقون الوقت في محاولة إستعادة مدينة حلب، بينما قدرة المُعارضة المُسلحة على التصدّي للهجمات تتقلّص وتتراجع بفعل تناقص الذخائر وبنتيجة التدمير المنهجي الذي يلحق بمواقعها. وما لم يتدخّل المُجتمع الدَولي لوقف الهجوم الحالي، وما لم تنجح المُعارضة المُسلّحة في فك الحصار عن جماعاتها المُحاصرة، فإنّنا سنسمع في المُستقبل غير البعيد ببدء إستخدام صواريخ أرض-جوّ على الساحة السوريّة من جانب مُعارضي النظام.