هذه المرّة لم يكن رجل بنشعي يبحث في الديمان عن بركةٍ "صيفية" لترشيحه "المضمون" من رأس الكنيسة المارونية. فزيارة الأمس تختلف كلّ الاختلاف في الأبعاد والمضامين والماهيات عن زيارة أواخر العام الفائت، يوم اطّرد الحديث عن اتّجاه الرئيس ​سعد الحريري​ الى إعلان ترشيح فرنجية رسميًا. لم ييأس فرنجية ولم ييأس الراعي.

كحضنٍ دافئ تبدو بكركي هذه الأيام. حضنٌ جاهز للمباركة من جهةٍ وللمؤاساة من جهةٍ أخرى. كثيرًا ما جهد سيّد الصرح على عدم التفرقة بين أبناء بيعته الواحدة، أو بتعبير أكثر دقّةً بين أقطابها الموارنة الأربعة يوم زكّاهم جميعهم للرئاسة على اعتبار أن هؤلاء بالذات يمثلون المسيحيين ويتّسمون بأريحية بصفة "الرئيس القوي". اليوم تتسلّل الغبطة الى نفس غبطته. فمن جهةٍ، سيتحقّق بعد أيام ما نادى به منذ ما يلامس السنتين ونصف السنة لجهة ملء الشغور في الموقع الأول، لا بل في الموقع المسيحي الأوحد في البقعة العربية.

بحثًا عن مظلة...

لم يقل فرنجية للكاردينال ​مار بشارة بطرس الراعي​ الكثير، تمامًا كما لم يقل الأخير للأول الكثير. فبالنسبة الى كليهما يبدو الأمر محسومًا، سواء لجهة اقتناع الراعي بخيار العماد عون رئيسًا قويًا، أم لجهة اقتناع فرنجية بأن حظوظه هزيلة وبأنه "أكل الضرب" من حلفائه وخصومه على السواء، ومع ذلك بقي متصالحًا مع ترشيحه ومتمسكًا به حتى لو كانت خسارتُه معلنةً مسبقًا وبفارقٍ قد يكون شاسعًا عن منافسه العماد عون، الرئيس المرتقب. ما قاله فرنجية في مقابلته الأخيرة التي أعلن فيها حربًا "شخصية" مع العماد عون على ما قرأ كثيرون، عاد وجدده من بكركي أمس لجهة مضيّه في ترشّحه وهو ما اعتبره كثيرون "ضرب ذكاء" من فرنجية خصوصًا على مستوى رمزية المكان الذي قال فيه ما قاله، بما يوحي لبعض المراقبين بأن رجل بنشعي يحاول منح ترشيحه الانفرادي مظلًة مسيحية قوية هي بكركي، أي بمعنى آخر وكأني بفرنجية أراد أن يقول بطريقة غير مباشرة إن الراعي نفسه شجّعه على مضيّه في ترشيحه ولم يطلب منه حتى الانسحاب، لذا خرج مؤكدًا أن الأجواء كانت ممتازة.

كان ينشد وحدة قرار...

ليست تلك الحسابات هي المنتصرة في المقرّ الصيفي، فبالنسبة الى الراعي على ما يشي مقرّبون من بكركي "لم يفرّق يومًا بين أبنائه المرشحين ولم يؤثر واحدًا على الآخر، بل جلّ ما أراده أن يكون للبنان رئيسٌ يتمتّع بالحدّ الأدنى من مواصفات القوّة التي تخوّله قيادة سفينة البلاد أولًا والسفينة المسيحية ثانيًا الى برّ الأمان بمعونة بكركي وسيّدها. وعليه ليس الراعي في موقع الضغط على فرنجية لإعلان انسحابه بما أنه خيارٌ شخصي وإن كان يتمنى أن تكون هناك وحدة حال وقرار مسيحية إزاء ترشيح العماد عون لمنحه مزيدًا من الالتفاف المسيحي حوله وتعزيز موقعه وقوّته من بوابة مسيحية أولًا قبل البوابات الشيعية والسنية والدرزية. أما عدا ذلك فهو داعمٌ كلّ الدعم للرئيس الجديد المفترض أن يكون العماد عون بعد أيام، وهو ما همسه في أذنه منذ أيام خلال زيارته بكركي".

بين بكركي والديمان

حكمًا ليست بكركي مكانًا للاحتفال ولا هي في المقابل حائط مبكًى، ومع ذلك لا بدّ من التماس بركتها في كلّ استحقاق فكم بالحري إذا كان هذا الاستحقاق يعنيها الى هذه الدرجة، لا بل حملت لواءه في الداخل كما في الفاتيكان ودور رؤساء العالم الفاعلين في الساحتين اللبنانية والشرق أوسطية. اليوم، قد لا يحمل الحيّز الجغرافي أيّ رمزية ومع ذلك يسجّل مفارقة يغمز بعضهم من قناتها من باب "التزريك". فبكركي أقرب الى الرابية وبعبدا جغرافيًا لا بل هي الصرح الأساس للبطريركية المارونية والمقرّ الرئيس الذي فيه تُطهى القرارات وفيه تلتئم مجالس المطارنة الموارنة وفي أحد صالوناته تُلتقط الصور التذكارية للتاريخ، لذا كان استقبال الراعي لعون في بكركي، أما الديمان فلا يعدو كونه مقرًا صيفيًا "يتفسّح" فيه على مر التاريخ كلّ بطريرك في فترة محددة من السنة ويبدو جغرافيًا بعيدًا نسبيًا بالنسبة الى الزوار ولكن ليس بالنسبة الى ابن الشمال ​سليمان فرنجية​ الذي تغدو الديمان له على مرمى حجر. أيًا يكن "ضعف" المقاربة برمزيته المُشار اليها، لم يبدُ في الأيام القليلة الفائتة أن للراعي كلامًا كثيرًا ليقوله، بعدما استبق كلّ تلك "الهمروجة" الرئاسية بتصويباتٍ قاسية على "سلّة" الرئيس نبيه بري مواظبًا على فصل الاستحقاق عن أي ملفاتٍ أخرى أحدين متعاقبَين حتى لو كان ذلك سيكلفه أو ربما كلّفه خصومة مرحلية مع رئيس مجلس النواب.

هل خبل نفسه؟

هو نفسه فرنجية الذي بدا مستشرسًا في مقابلته الأخيرة تجاه عون شخصيًا وتجاه التيار الوطني عمومًا، أطلّ في الأمس من الديمان ليقول إنه ما زال رقمًا صعبًا على الساحة الرئاسية، وإن الراعي سيدعمه في غير مناسبةٍ، عندما يبتسم له الحظّ "الحريري" مرةً ثانية هذا إن عاد وابتسم له بعد خروجه كليًا من عباءة الرابية، وجفائه التاريخي مع معراب، وعدم استساغته من أبناء بكفيا، وعليه سيفتقد كلّ دعمٍ مسيحي في حمله الرئاسي المقبل إلا إذا حصل ما حصل اليوم من مصالحاتٍ تخلط الأوراق وهو ليس بالأمر المستبعد في السياسة اللبنانية. علمًا أن عدم انسحاب فرنجية قد يكون برضًى تام من حزب الله كي لا يظهر مكسورًا او مستسلمًا، بيد أن ذلك لم يحل دون انقسام وجهات النظر إزاء إطلالة فرنجية الأخيرة التي وضعها بعضهم في خانة "تثبيت مبادئ الرجل وتصالحه مع خطه وعروبته"، فيما لم يرَ فيها آخرون سوى "إطلالة هزيلة تعجّ بالسُباب والتصويبات الطفولية وتبييض الوجه". وفيما لا تبدو الرابية في موقع الردّ على كلّ ما تفوّه به فرنجية من مقارنة تاريخه "المهفهف" بتاريخ عون "غير المشجّع"، تنبري الى الاهتمام بأمور أخرى لا سيما أن الوقت يداهمها لجهة الاستعداد للاحتفال بالعماد الرئيس، ولهذا الغرض تجيّش كلّ من يسري في عروقه دمٌ برتقالي للمساعدة سواء لوجستيًا في الإعداد للاستقبال الشعبي في بعبدا أم إعلاميًا لتغطية الحدث بدعوةٍ من مكتب القصر بعد صمت عقدين ونيّف بما يرقى الى حلمٍ عمره ثلاثة عقود يتحقق قريبًا جدًا. أما وأن إشكالية النصاب حسمها بري لصالح الدورتين، فيبدو الرقم الذي سيحصده الجنرال غير مهمٍّ طالما أنه سيحمل لقب "الفخامة" بعد أيام معدودة، وطالما أن هناك التفافًا واسعًا حوله سبق الانتخاب لم يحظَ به فرنجية حتى في عزّ الحديث عن اتجاه الحريري الى ترشيحه رسميًا وهو ما بقي في إطاره النظري.