مع بدء أزمة ​الفراغ الرئاسي​ في 25 أيار 2014، وضع الكثير من اللبنانيين، وعلى رأسهم المرشح الأوفر حظاً اليوم رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، النظام اللبناني، و​اتفاق الطائف​ في صلبه، على المِحَكّ، باعتبار أنّ "ثغراته" باتت واضحة للعيان، ولم يعد بالإمكان إخفاؤها.

وفي عزّ الحديث عن "صفقاتٍ" و"تفاهماتٍ" ترافق إنجاز الاستحقاق الرئاسي، يُجمِع المراقبون على أنّ الاتفاق المذكور سيكون "المنتصر الأكبر"، باعتبار أنّ رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ لم يكن ليغامر بترشيح عون، لو لم يحصل على "ضماناتٍ" منه بأنّ هذا الاتفاق لم ولن يُمسّ، وأنّ كلّ الصّيَغ التي أثيرت من مؤتمر تأسيسي وما شابه لن تبصر النور، لا اليوم ولا غداً.

فهل انتهت فعلاً معركة "الطائف" التي لطالما شكّلت الهاجس الأول لدى المسيحيين خصوصاً، وهم الذين لطالما شكوا من تهميش صلاحياتهم، أم أنّها أرجئت لفترةٍ ولن تلبث أن تندلع من جديد؟!

الرئيس ضمانة؟

معركة طويلة خاضها "التيار الوطني الحر" على مرّ السنوات الماضية في مواجهة اتفاق الطائف، الذي لا يتردّد كثيرٌ من المسيحيين، ومن "العونيين" على وجه التحديد، بوصفه بـ"المشؤوم"، باعتبار أنّ زعماءهم هم من دفعوا ثمنه، سواء "نفياً" كحالة "الجنرال"، أو "سجناً" كحالة خصمهم التاريخي وحليفهم المستجدّ رئيس حزب "القوات اللبنانية" ​سمير جعجع​، فضلاً عن كونه جرّد المسيحيين من الحدّ الأدنى من حقوقهم في الجمهورية اللبنانية.

وإذا كانت عبارة أنّ "الطائف ليس إنجيلاً ولا قرآناً" بقيت الأكثر تداولاً على ألسنة "العونيين" لسنواتٍ وسنوات، في مواجهة إصرار بعض الأفرقاء على عدم تعديل أيّ فاصلة منه، فإنّ أنصار عون يرفضون مقولة أنّه تخلّى عن معركته في وجه الطائف مقابل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، وكأنّ هدف "الجنرال" كان منصباً على الوصول إلى "الكرسي"، وبالتالي فهو مستعدٌ لأيّ شيء في سبيل ذلك، كما يحلو للبعض الإيحاء بكلّ أسف.

يختصر هؤلاء موقف "التيار" الحقيقي بالقول أنّه كان وسيبقى دائمًا مع تعزيز صلاحيات رئيس الجمهورية، الذي تحوّل بعد الحرب من الآمر الناهي في البلاد إلى مجرّد "باش كاتب"، أقصى ما يستطيع فعله هو تسجيل المواقف الإعلامية والسياسية، لا أكثر ولا أقلّ، بدليل أنّ دوره بموجب دستور الطائف يقتصر على "احترام الدستور، والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة اراضيه"، وهي عباراتٌ تكاد تكون إنشائية، لا ترجمة عملية لها.

وإذا كان "التيار" يؤكد الحرص على الانطلاق من باب تعزيز الصلاحيات، بأيّ طريقةٍ، فإنّ أنصاره يشدّدون على أنّ المطلوب ليس معاداة شريحة وطنية كبيرة تعتبر اتفاق الطائف ضمانةً أساسية لها، بل جذب هذه الشريحة نحو الشراكة الحقيقية الفاعلة، والتي يعمل عليها "العونيون" اليوم، والتي من شأنها التمهيد للتطبيق الكامل وغير المنقوص للاتفاق، وبالتالي تغيير المعادلة المعمول بها.

وأكثر من ذلك، يعتبر هؤلاء أنّ الفرصة المُتاحة اليوم لتحقيق التغيير أكبر من أيّ وقتٍ مضى، باعتبار أنّ مجرّد وجود العماد ميشال عون في سُدّة الرئاسة، مع ما يمثّل من حيثية كبيرة في الشارع المسيحي، يشكّل "باكورة التغيير"، إذ لم يسبق منذ الطائف وحتى اليوم أن وصل رئيسٌ بهذه المواصفات. وهم، إذ يؤكّدون أنّ المرحلة المقبلة ستكون مرحلة اختبار، ويرفضون الحكم عليها سلفاً، يجزمون أنّ عون في الحكم سيكون هو "الضمانة"، والأيام كفيلة بإثبات ذلك.

قصّة وقت

ولكن، في مقابل وجهة النظر العونية "المتفائلة"، هناك وجهة نظر أخرى تعتبر أنّ شيئاً لم ولن يتغيّر، وأنّ المسيحيين خسروا عمليًا فرصة "تاريخيّة" للتغيير بسبب "إغراء" السلطة. ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ الحريري، المُتَّهَم اليوم بـ"الانتحار السياسي" بسبب موافقته على انتخاب أقوى خصومه، مغامرًا بما تبقّى له من رصيدٍ سياسي وشعبي، لم يفعل ذلك إلا مقابل الحفاظ على "رأس" الطائف سليمًا ومعافىً، خصوصًا بعدما أدرك أنّ الوصول إلى "المجهول" الذي لم يكن بعيدًا كان من شأنه أن يطيح بالنظام عن بكرة أبيه.

يرفض هؤلاء الحكم مسبقاً على "نوايا" عون، والادّعاء بأنّ الشعارات التي لطالما رفعها، وعلى رأسها استعادة حقوق المسيحيين المصادَرة، سقطت مع انتخابه رئيسًا للجمهورية وأصبحت في خبر كان، ولكنّهم يعتبرون أنّ "الجنرال"، حتى لو أراد فعل شيء، فهو لن يستطيع، بكلّ بساطة لأنّ لا صلاحيات بيده على الإطلاق، وهو الذي يُعتبَر قانونًا أضعف من الوزير القادر، على سبيل المثال لا الحصر، على توقيف أيّ قانون يتعارض مع رأيه، وهو ما ليس مُتاحًا للرئيس.

من هنا، يصرّ أصحاب هذا الرأي على أنّ المسألة قصّة وقت ليس أكثر، لأنّ تطوير النظام لا بدّ أن يأتي عاجلاً أم آجلاً، وهم يعتقدون أنّ وجود عون في سدّة الرئاسة على وجه التحديد قد يسرّع في "الانفجار"، باعتبار أنّ "شهر العسل" الذي يعيشه هذه الأيام مع رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري لن يبقى على حاله بعد تسمية الأخير رئيساً للحكومة، خصوصاً عندما يصبح الأخير بموجب الدستور أيضاً صاحب النفوذ الأول والأخير في البلد، أي بمعنى آخر "الحاكم بأمره".

ولعلّ الأسئلة التي يمكن أن تُطرَح في هذا السياق كثيرة، وأولها وأقربها هو، ماذا لو كُلّف الحريري بتأليف الحكومة، بموجب الاتفاق الثنائي، ولم يستطع التأليف فعلاً، وهي "الورقة" التي يلوّح بها معارضوه في وجهه، وفي مقدّمهم رئيس المجلس النيابي نبيه بري؟ ماذا سيفعل عون في هذه الحالة، وهو الذي لا يعطيه الدستور أيّ صلاحية للتدخّل، ولا سيما لجهة إلزام الرجل بمهلة معيّنة للتكليف؟ وماذا لو قرّر الحريري أن يستمرّ بمحاولاته طيلة العهد "العوني" من دون أن يفلح؟ أليست هذه "الصلاحية" الممنوحة له تكفي لإعادة النظر بدستور الطائف؟

خطوة أولى...

برأي أنصار "الجنرال"، فإنّ انتخابه رئيسًا سيكون الخطوة الأولى في مسار استعادة الحقوق المسيحية المسلوبة، فمجرّد وصول زعيمٍ بحجمه وحيثيته إلى سُدّة الرئاسة، يعني أنّ زمن "الخضوع المسيحي" قد ولّى، وأنّه باتت لهم كلمتهم المؤثرة.

نظريًا، تبدو هذه "الفرضية" صائبة، ولكن "عمليًا"، تبدو الأمور أعقد وأصعب بكثير، وتبقى الممارسة في الآتي من الأيام وحدها صاحبة الكلمة الفصل...