يتفاوت الدعم الذي لقيه رئيس "تكتّل التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون لمنصب رئاسة الجمهوريّة بين التكتيكي المَصلحي الضَيّق والإضطراري والظرفي من جهة، والإستراتيجي السياسي الطويل الأمد من جهة أخرى. ويُمكن في هذا السياق، توقّع مُواجهة على المُستوى السياسي الإستراتيجيّ بين كل من "حزب الله" و"القوات اللبنانيّة" في المدى المنظور، ستتمحور حول مُحاولة دفع العماد عون إلى خيارات وقرارات سياسيّة أقرب إلى هذا الطرف أو ذاك. فعلى ماذا تُراهن كل جهة؟

لا شكّ أنّ الكثير من الأحزاب والجهات السياسيّة التي وقفت إلى جانب العماد عون في المعركة الرئاسيّة قامت بذلك لأسباب تكتيّة ترتكز إلى خوف عزلها وتحوّلها إلى موقع هامشي خلال العهد الجديد، وإلى عدم الرغبة في مُعاداة حُكم "الجنرال" من بدايته. وبالنسبة مثلاً إلى موقف رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط الإيجابي بشكل عام من العماد عون، فهو جاء خُصوصًا بعد الأخذ في الإعتبار مخاطر مُواجهة أي تحالف إنتخابي بين "القوات" و"التيار الوطني الحُرّ" في قرى وبلدات الشوف وعاليه. وبالنسبة مثلاً إلى موقف رئيس "تيّار المُستقبل" فهو جاء خُصوصًا بعد الأخذ في الإعتبار عدم إمكان عودة النائب سعد الحريري إلى منصب رئاسة الحكومة، وعدم إمكان عودة "تيّار المُستقبل" إلى الحُكم بشكل فعّال، من دون سلوك هذا الطريق. والأمثلة عن المواقف التكتيّة التي صبّت في صالح "الجنرال" كثيرة، بينما تميّز موقف كل من "حزب الله" و"القوات اللبنانيّة" في أنّه يصبّ في خانة الإستراتيجي البعيد المدى وليس التكتيّ الظرفيّ.

بالنسبة إلى "حزب الله" فهو تلقّف منذ عقد من الزمن إيجابًا مساعي "التيّار الوطني الحُرّ" التقرّب منه، وعمل منذ توقيع "ورقة التفاهم" في 6 شباط 2006 على الحفاظ على تحالفه مع "التيّار" لأهداف إستراتيجيّة، تتمثّل في:

أوّلاً: إستمالة "التيّار" سياسيًا، وجعله في موقع مُغاير تمامًا وحتى مُناقض في بعض الأحيان لمواقع قوى "14 آذار" السابقة، علمًا أنّ "التيّار" كان يُمثّل أحد أبرز الجهات التي شاركت في إنجاح تظاهرة "14 آذار" التي جاءت كردّ على تظاهرة "8 آذار" في العام 2005. وقد لعب "الحزب" على هذا الوتر بشكل ناجح، الأمر الذي أدّى إلى خسارة قوى "14 آذار" إحدى أبرز الجهات السياسيّة والشعبيّة الداعمة. وهو يُخطّط للحفاظ على هذا النهج في السنوات المُقبلة، الأمر الذي دفعه إلى أخذ موقف مُغاير رئاسيًا عن باقي قوى "8 آذار" التي نظرت إلى الأمور من زاوية ضيّقة، ففضّلت رئيس "تيّار المردة" النائب سليمان فرنجيّة على "الجنرال"، بينما إستراتجيّة "حزب الله" دفعته إلى التمسّك حتى النهاية بخيار العماد عون لحرمان قوى "14 آذار" السابقة من حليف قوي مُحتمل.

ثانيًا: الإستفادة من دعم "التيار الوطني الحُر" كقوّة سياسيّة وشعبيّة واسعة، وهو ما لا تؤمّنه أيّ قوّة سياسيّة أخرى من الجهات الداعمة للحزب التي تُعتبر محدودة الحجم السياسي والشعبي، باستثناء حركة "أمل" التي تُصنّف في نهاية المطاف ضُمن البيئة نفسها التي تُشكّل الركيزة الشعبيّة للحزب. وقد حرص "الحزب" على تفضيل العماد عون على النائب فرنجيّة، بعكس أغلبيّة قوى "8 آذار"، لإدراكه إستراتيجيًا أنّ زعيم "تيّار المردة" غير قادر من الناحيتين السياسيّة والشعبيّة على تعويض ما يُقدّمه "التيار الوطني الحُرّ" من سند.

ثالثًا: الإستفادة من الدعم الواسع الذي يُمثّله "التيار الوطني الحُرّ" في صفوف الطائفة المسيحيّة بالتحديد، وهو دعم مطلوب بالحاح من جانب "حزب الله" لأنّه يُخرجه من تقوقعه الطائفي والمذهبي الضيّق، باعتبار أنّ الدعم المسيحي الذي يُوفّره "تيار المردة" أو "الحزب القومي السوري" أو سواهما لا يُقارن إطلاقًا بما يوفّره "التيار الوطني الحرّ". ولا شكّ يحرص "حزب الله" على الإحتفاظ بهذا الدعم "المسيحي"-إذا جاز التعبير، لأنّه أخرج أيضًا الطائفة المسيحيّة من تموضع سياسي لطالما تميّزت به منذ إستقلال لبنان حتى الإنعطافة التي أحدثها تحالف "التيار" مع "الحزب".

في المُقابل، وبعكس ما يظنّ الكثيرون إنّ قرار دعم العماد عون الذي إتخذه حزب "القوات اللبنانيّة" لم يأتِ كقرار تكتيّ ظرفي يهدف إلى قطع الطريق على خيار النائب فرنجيّة رئيسًا، بل هو أعمق من ذلك بكثير. صحيح أنّ أحد الأهداف كان إعادة إمساك أوراق إنتخابات الرئاسة، لكنّ الأصح أنّ لهذا القرار أهدافًا إستراتيجيّة عدّة، أبرزها:

أوّلاً: طيّ صفحة العداوة والحقد التي شرذمت صفوف المسيحيّين منذ النصف الثاني من حقبة الثمانينات حتى اليوم، الأمر الذي يعود بالفائدة على مُختلف القوى المسيحيّة بشكل عام، ويُخرج "القوات" بشكل خاص من "فيتو" مسيحي قويّ كان يستهدفها.

ثانيًا: العودة إلى السُلطة اللبنانيّة من موقع قوي كشريك أساسي في الحُكم من الصعب تجاوزه، وهو ما كان يُفترض أن يتمّ بعد إتفاق "الطائف"" لولا تعرّض "القوات" في حينه للإستفراد والعزل والإستهداف من قوى داخليّة مختلفة بقرار سوري واضح في حينه. وتتطلّع "القوات" للعودة إلى الخريطة السياسيّة اللبنانيّة عُمومًا، وإلى الخريطة السياسيّة المسيحيّة بالتحديد، كشريك أساسي في القرارات. وهي تطمح لتعزيز تعاونها السياسي والإنتخابي مع "التيار الوطني الحُر" إنطلاقًا من هذه الأهداف، وذلك وفق تفاهمات سياسية وطنيّة عريضة.

ثالثًا: مُحاولة إعادة العماد عون إلى الموقع السابق الذي كان فيه من الناحية السياسيّة، الأمر الذي سيُفقد تلقائيًا قوى "8 آذار" السابقة، دعمًا سياسيًا وشعبيًا كبيرًا كانت تستفيد منه، الأمر الذي من شأنه إعادة خلط أوراق اللعبة السياسيّة الداخليّة ككل بشكل كامل.

في الختام، صحيح أنّ العماد عون يتمتّع بالقوّة وبالخلفيّة وبالخبرة السياسيّة الكافية لجعله "سيّد" قراراته وتوجّهاته وسياساته العامة، وهو سيُحاول من دون أدنى شكّ التصرّف من موقع وسطي وموضوعي وجامع للبنانيّين بهدف إنجاح عهده، لكنّ الأصحّ أنّ كلاً من "حزب الله" و"القوات اللبنانيّة" سيتواجهان سياسيًا طوال المرحلة المُقبلة لإستمالة العماد عون وما يُمثّله، إلى هذا الخيار أو ذاك. واللافت أنّ مُجرّد وقوف "الجنرال" في موقع وسطي تفترضه صفته كرأس الدولة، سيكون مُناسبًا للقوات أكثر منه للحزب، لأنّ العماد عون لم يكن في السنوات الماضية في موقع وسطي على الإطلاق!