لا يخفى على أحد أنّ العلاقة بين "حزب الكتائب" و"​القوات اللبنانية​" في أسوأ أحوالها، وذلك منذ وصول النائب ​سامي الجميل​ إلى رئاسة "الكتائب" خلفاً لوالده الرئيس السابق أمين الجميل، أي منذ ما قبل التفاهم بين "القوات" و"التيار الوطني الحر"، الذي سرّع ربما في إجراءات "الطلاق" بين الجانبين.

ولكن لا يخفى على أحد أيضاً أنّ العلاقة بين "الكتائب" و"تيار المستقبل" بقيت محيَّدة إلى حدّ كبير طيلة الفترة الماضية، فعلى الرغم من تسجيل بعض "الفتور" بين رئيسي الحزبين سامي الجميل و​سعد الحريري​ في أكثر من مكان، إلا أنّهما حرصا على الحفاظ على "شعرة معاوية" فيما بينهما، من خلال إبقاء الودّ بينهما سيّد الموقف في كلّ الظروف.

لكنّ هذا الودّ فُقِد الأسبوع الماضي على هامش جلسة مجلس النواب التي بحثت في سلسلة الرتب والرواتب، وصولاً لما تلاها من تحرّكات شعبية، لدرجة أنّ الحريري هدّد بشكلٍ علني برفع الحصانة عن الجميل، ولو لم يسمّه بالاسم، فهل وقع "الطلاق" بينهما؟

مزايداتٌ بمزايدات؟!

" ما حصل اليوم من تسريب أكاذيب عبر مواقع التواصل الاجتماعي أمر معيب، ونحن سنسمي ونعلن من قام بذلك والقانون يطال الجميع. وإذا كان أحد النواب هو من قام بذلك فنحن سنرفع عنه الحصانة".

بهذه العبارات، أنهى رئيس الحكومة سعد الحريري الأسبوع الماضي آخر فصول "مسرحية" تعامل الدولة اللبنانية مع سلسلة الرتب والرواتب ووارداتها. وإذا كان مسلّمًا به أنّ "الإخراج" الذي رافق هذا الفصل كان سيئاً ورديئًا، خصوصًا في مشهده الأخير، فإنّ ما لا يبدو قابلاً للنقاش أنّ المقصود من "فورة غضب" الحريري لم يكن سوى سامي الجميّل شخصيًا.

لا شكّ أنّ من السذاجة الافتراض، عن حسن أو سوء نيّة، بأنّ الجميّل هو الذي طيّر "السلسلة" عبر تطيير نصاب الجلسة العامة للمجلس، وهو الذي لم يطر في الواقع، باعتبار أنّ الكتلة التي يترأسها الأخير لا تعدّ أكثر من خمسة نواب من أصل 128 نائبًا. وبالتالي، فإنّ عدم إقرار السلسلة لا يتحمّل مسؤوليته الجميل، مهما شاغب واعترض، ولو مارس كلّ أساليب "النكد السياسي" المتوفّرة، لأنّ القرار في النهاية لن يكون سوى للأغلبية النيابية، إذا كانت تمتلك الإرادة والعزيمة الحقيقيتين لذلك.

ولكن، في المقابل، لا شكّ أنّ من السذاجة أيضًا الاعتقاد بأنّ ممارسة الجميل لدور "المعارضة" في المجلس النيابي، مع ما له من مكاسب "شعبوية" خالصة، ستكون محلّ تقدير من الحريري وحلفائه، حتى ولو كان هؤلاء هم من ارتضوا له أصلاً هذا الموقع، حين أحرجوه فأخرجوه من "جنّة الحكم"، وفق توصيفهم، "مستكثرين" عليه حقيبة دولة، وجد أنّها لن تقدّم له شيئاً.

وبمعزلٍ عن الحكم على "نوايا" الجميل، وما إذا كان يمارس دوره هذا عن قناعةٍ كاملةٍ، أو من باب "المزايدات" بهدف كسب الشارع وتعويض ما فاته، فإنّ الأكيد أنّ "الشيخ سامي" عرف كيف يستفيد من موقعه المعارض، بشكلٍ "أغاظ" كلّ من في السلطة، حيث ظهر وكأنّه وحده الحريص على مطالب الشعب، والرافض لفرض الضرائب التي من شأنها أن تثقل كاهله، الأمر الذي دفع بعض من في السلطة إلى مطالبة المعارضين بتقديم البدائل، في منطقٍ لا يبدو مستقيمًا.

ولعلّ قرب الانتخابات النيابية، إن حصلت، هو ما عزّز من "الإحراج" الذي شعر به الحريري وشركاؤه في الحكم، لأنّهم اعتبروا أنّ الجميل يسعى لتحسين وضعه في الشارع على حسابهم، في وقتٍ يعتبر "الشيخ سعد" مثلاً أنّه بالكاد بدأ يستعيد شارعه، وهو غير مستعدّ لأيّ "خضّة" من شأنها أن تهدّد "ثقة" هذا الشارع به، أياً كان مصدرها، علمًا أنّ الخطوة التي أقدم عليها بالأمس بالنزول إلى الشارع تصبّ في هذا الاتجاه.

"قلوب مليانة"

عمومًا، وعلى الرغم من "حساسية" ما حصل في جلسة مجلس النواب، واقترانه ببدء المبارزات الانتخابية، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ القصّة بين الحريري والجميل تتخطّى السلسلة والضرائب، بل تكاد تنطبق عليها المقولة الشهيرة " القصة مش رمانة... القصة قلوب مليانة".

وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن تراكمات سلبية في العلاقة الثنائية بين "تيار المستقبل" و"حزب الكتائب" بدأت منذ أيام انخراطهما في تحالف ما كان يُعرف بقوى الرابع عشر من آذار، حيث كانت بدعة "التمايز الكتائبي" بقيادة الجميل حاضرة بشكل دائم لتعكير صفو العلاقة، بل توتيرها، الأمر الذي كان يجعل "المستقبل" يميل أكثر نحو "القوات" منه إلى "الكتائب"، خشية أيّ "انقلابٍ" يمكن أن تقدم عليه الأخيرة في أيّ لحظةٍ، الأمر الذي كان بالنسبة لـ"المستقبليين" احتمالاً أكثر من جدّي، وإن لم يُترجَم عمليًا على أرض الواقع.

أكثر من ذلك، يحمّل "المستقبليّون" حزب "الكتائب" مسؤولية أساسية في فرط تحالف "14 آذار"، خصوصًا بعد خروج رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط منه، بحيث عمد "الكتائبيون" إلى تبنّي خطٍ خاصٍ بهم، بدل السعي إلى توحيد الرؤى مع "المستقبل" و"القوات" وسائر مكوّنات هذا الفريق، وذهبوا برأيهم لحدّ "افتعال" الإشكالات التي لا طائل منها، خصوصًا مع انسحابهم من الأمانة العامة لقوى الرابع عشر من آذار جراء "خلافهم" مع النائب السابق فارس سعيد، الأمر الذي عرّى هذه الأمانة العامة من مضمونها على المدى الطويل.

أما النقطة المفصلية في العلاقة بين "المستقبل" و"الكتائب"، فكانت مع تبنّي "الشيخ سامي" شعار "تطوير النظام"، في عزّ الحملة التي كان يشنّها "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" على النظام، تحت مسمّى "المؤتمر التأسيسي" تارةً والدعوة تارةً أخرى لتعديل اتفاق الطائف، الذي يعتبره "المستقبل" خطاً أحمر لا يجوز المساس به. هنا أيضًا، وبدل أن يراعي الجميل حليفه المفترض، ساهم عمليًا بالحملة عليه، ولو حاول "تلطيف" ذلك بشعاراتٍ اعتقدها أقلّ وقعًا.

ولا يخفى على أحد أنّ المسار الذي أخذته الانتخابات الرئاسية ضاعف من التباعد بين الفريقين، حيث أصرّ الجميل على التغريد خارج السرب. وفي وقتٍ كان الحريري يسعى بكلّ ما أوتي من قوة لتبرير "التضحيات" التي قدّمها، لم يتورّع الجميل عن انتقادها بوصفها "تنازلات مجانية"، وصولاً لحدّ تصويته مع كتلة "الكتائب" في جلسة انتخاب الرئيس لـ"ثورة الأرز في خدمة لبنان"، ما أوحى وكأنّه الوحيد المتشبّث بهذه "الثورة"، بعدما تخلّى الجميع عنها.

وهج المعارضة...

قد يكون السجال غير المباشر الذي دار بين "الشيخ سعد" و"الشيخ سامي" في أروقة البرلمان هو الأول من نوعه، وإن كان "الفتور" بينهما يعود إلى أشهرٍ طويلة خلت. ولكن، وبغضّ النظر عن الأسباب التي دفعت إليه، وعن تداعياته المرتقبة، فإنّ موقف الجميل، على براءته، يحمل من الواقعية الكثير.

سأل الجميل: "هل يحق للنائب اللبناني أن يعطي رأيه بضرائب تضرّ بمصلحة الشعب اللبناني، أم أصبحنا في ديكتاتورية ممنوع أن يعطي المرء رأيه فيها؟"... سؤالٌ يبدو أكثر من مشروع، برسم كلّ المنتفضين ضدّ انتفاضة "الكتائب"، وهم للمفارقة أنفسهم من هلّلوا لبقائه خارج الحكومة، علّه يعطي المعارضة وهجها!