إنّ تاريخ الصراع بين إسرائيل وحزب الله سجّل نهايتهُ العسكرية المباشرة في حرب تموز 2006، حيث رسخت قناعة لدى الطرفين بعدم جدوى الأعمال العسكرية في حسم التنازع الصدامي لصالح طرف دون الآخر. فالتجارب العسكرية الماضية أنتجت ظروفاً أكثر تعقيداً ودراماتيكيةً بينهما، وأدّت إلى تعاظم وتوسّع قوة حزب الله في الوقت الذي تابعت خلاله إسرائيل تعزيز مواقعها على الجبهة الشمالية مع لبنان، واستمرارها في الامتداد الاستيطاني داخل الأراضي الفلسطينية. ومع اشتعال فتيل الأزمة السورية اندفع الطرفان للتدخل في مجرياتها، لأنها تشكّل مجالاً جاذباً للاحتكاك التغالبي بينهما، وذلك بسبب التجاور الطبيعي المحكوم بالإكراه الجيوسياسي والتداخل الجيوستراتيجي بين لبنان وسوريا وفلسطين.

وبينما كانت أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تنشط في تفعيل الاضطرابات داخل سوريا وتسريع محاولات إسقاط نظام الرئيس "​بشار الأسد​"، أرادت تحقيق هدف وجودي هام بالنسبة إليها، يتمثّل في تصفية حزب الله ومجتمع المقاومة بحرب الوكالة عبر الميليشيات التكفيرية التي تحمل إيديولوجيا عدائية متأصّلة ونقيضة لعقيدته ومشروعه، لكنّ النتائج كانت كارثية بالنسبة للإسرائيلي. فقد توغّل حزب الله في الجغرافيا السورية، وتوسّعت رقعة الصراع معه حيث أقام قواعد اشتباك جديدة إزاء إسرائيل في الأراضي السورية، وتحوّل من حزب حليف لسوريا إلى إحدى منظومات أصحاب القرار فيها، فضلاً عن تحوّله إلى لاعب إقليمي كبير يمتدّ بعلائقية تبادلية مباشرة في العراق واليمن والبحرين، إضافة إلى حصولهِ على الدعم والتأييد الدولي من روسيا والصين. وبذلك أدركَ الكيان الإسرائيلي مرة أخرى أنّ الجبهات العسكرية المفتوحة مع حزب الله تزيد من قوتهِ ونفوذه، وتستجلب نتائج عكسية محبِطة للمخطّطات الإسرائيلية.

لذلك نقلت إسرائيل الحرب من الجبهات العسكرية إلى الجبهة الأكثر خطورة على حزب الله، وهي جبهته الاجتماعية التي تقوم على ثلاثة ركائز: المنظومة القاعدية المنتسبة إليهِ تنظيمياً، والمنظومة الحيوية الحاضنة له، والمنظومة الوطنية التي تؤيّدهُ، حيث تشكّل هذه المنظومات الثلاثة النّسق الكلّي العام لنُظمة مجتمع المقاومة. فالمنظومة القاعدية لحزب الله هي الجماعات التي تنضوي في تكوينهِ النظامي من مسؤوليهِ ومقاتليهِ وموظفيهِ وعائلاتهِ ومؤسساتهِ، بينما المنظومة الحيوية هي الجماعات التي تقطن محيطه الجغرافي في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية بحيث تستغرق مجاله الحيوي وتؤلّف حاضنة جماهيرية له، وتنتمي هاتان المنظومتان على الأغلب إلى الطائفة الشيعية التي تحتويه. أما المنظومة الوطنية المؤيدة له فهي مجمل الجماعات والأحزاب الصديقة والمؤيدة للمقاومة من مختلف الطوائف، والتي تشكّل معه النسيج الاجتماعي الوطني المتعدّد للبنان.

ابتكرت ​اسرائيل​ نظرية "الأسد المريض" بهدف إلحاق الهزيمة بحزب الله وتهديد وجودهِ وإضعاف نُظمتهِ البنيوية، وقد حقّقت حتى الآن نجاحاً نسبياً جعل قيادة حزب الله تستشعر الخطر متأخرةً. فنظرية "الأسد المريض" عالية الثبوتية والتحقّق في ميدان الصراعات الدولية، ولها تأثير انهياري بالغ الخطورة على الدول والمجتمعات والشعوب، حيث أدّت إلى سقوط الإمبراطورية العثمانية والاتحاد السوفياتي، وقد تمّ تطوير أساليب وتقنيات هذه النظرية بما يتماشى مع العصر الحديث. وتشكّل هذه النظرية محاكاةً رمزية لطبيعة ونسق قوة الأسد المسيطر الذي لا يمكن مواجهته، ولكن عندما ينال منه المرض ويشعر بالوهن ينعزل ويتوحّد، ويفقد السيطرة على الأقران والمجموعات الأخرى في المساحة التي كان يحكمها، وذلك تحت مراقبة النّسر والضباع والذئاب التي تلحظ الوهن والضعف فيه لتنقضّ عليه في اللحظة المناسبة.

عيّنت إسرائيل بشكلٍ تشخيصي الأنساق البُنيوية التكوينية لحزب الله، وحدّدت طبيعة المتّحَد العضوي الذي يشكل هيكليّتهُ النُّظمية، وأخذت تعمل على ضرب أنساقهِ التحتيّة من الداخل مستخدمةً آلياتٍ وطرقاً وأساليبَ عديدة: كالتشريط والإيحاء والتطويع والتسليل والعصف الباطني وإحداث الصدمات الهلعيّة والتفجير الاستباقي وتقنيات الوظافة الجماعية وإحباط الطاقة الحيوية لشعب المقاومة وتنكيس دينامياتهِ الوجودية وتشطير ذاتهِ الجماعية وتحقيق ارتكاسهِ الهوامي واغترابهِ الوجودي وبالتالي تكريس حالة اللايقين اتجاه القضايا المصيرية... وغيرها من الأساليب التي لا يتّسع المجال لشرحها الآن، وهي تهدف إلى تقويض البُنيان الداخلي للمقاومة وتجويفهِ تدريجياً وتفريغهِ من عناصر الاقتدار، وبالتالي تدمير أنساقهِ النفسية والثقافية والاجتماعية والقيمية من خلال وسائل التواصل المفتوحة وآليات العولمة والحوكمة والميديا الموجّهة. وقد حقّقت نظرية "الأسد المريض" في تطبيقها الإسرائيلي نتائج خطيرة، تظهر أعراضها المرَضية بوضوح في الجسد الجمعي لحزب الله.

على مستوى المنظومة الوطنية باتَ حزب الله موضع خلاف سياسي واستراتيجي بين الأحزاب اللبنانية بعدما كان موضع إجماع وطني، وارتدّ ذلك بطبيعة الحال إلى خلافات مصيرية مذهبية حوله في لبنان. وعلى مستوى المنظومة الحيوية بدأت تتجلّى حالات اللايقين إزاء مشروع المقاومة، كما بدأت تعاني هذه المنظومة الحاضنة لحزب الله من مشكلات اجتماعية متعلّقة بتوسّع أحزمة البؤس وانتشار الرذائل والجرائم والإدمان، فصار محاطاً ببيئة غير مثالية لنموّه السليم. وقد طالت هذه الأعراض بالضرورة المنظومة القاعدية للحزب، وأبرزها الخلل الاجتماعي الذي يؤدّي إلى زعزعة عناصرهِ النواتية، وهي الأُسَر والعائلات والعلاقات الزوجية والأخوية وصلات القُربى والأواصر الاجتماعية. وهذا ما دفع بالأمين العام لحزب الله إلى التدخّل العلاجي، من خلال خطاباتهِ الداخلية الأسبوعية الموجّهة إلى منتسبي الحزب ومناصريه، حيث يضطر إلى الحديث حول الزواج والطلاق والتربية الأسرية والشعائر الدينية.

يبدو أنّ حزب الله قد انتبه متأخّراً إلى المرض المُفتعل في بُنيتهِ التجسّدية، ففي وقتٍ سابق كان السيد "نصر الله" يسخرُ في خطاباتهِ من أهم العلوم الإنسانيّة، وينصح شعب المقاومة بعدم اللجوء إلى علماء النفس بل إلى الله الذي يشفي نفوس الأفراد والجماعات، بينما كانت أميركا وإسرائيل تحشدان الطاقات والأدمغة في مجال العلوم النفسية والباحثين في علم نفس الشعوب وعلم النفس السياسي والاجتماعي، وسيكولوجيّة الجماهير والدينامية النفسية بين القيادة والجماعات، وسيكولوجيا الإعلام والأبعاد النفسية للاقتصاد والعسكريتاريا النفسية والسيوكولوجيا الجغرافية العقائدية وعلم نفس الأعماق وعلم النفس الاستخباراتي والاستراتيجيات النفسيّة الجماعيّة، وذلك لفهم الأنساق والنُّظم النفسية لمجتمعات المنطقة، مما مهّد لها تهيئة الظروف المناسبة لإطلاق الربيع العربي المزعوم وإسقاط الأنظمة وخلق الوحوش العنيفة كداعش والنصرة، فتكلّفت شعوب المنطقة خسائر بشرية وماديّة فادحة فضلاً عن تغير البُنى النفسية والاجتماعية لديها، لا سيما في بنية مجتمع المقاومة. وقد اضطر اليوم السيد "حسن نصر الله" أنْ يقوم بالتدخل المباشر في مجتمعه ليقوم بدور المعالج النفسي والمرشد الاجتماعي والموجّه التربوي لمنظومة شعب المقاومة، وهي المجالات التي أخطأ حين نبذها بنفسهِ منذ سنوات. وعندما حاول معالجة الأمر وقع في خطأ آخر لا يقلّ في إشكاليّتهِ عن سابقهِ. فالمحاضرات الأسبوعية الداخلية ستضعهُ أمام مبدأ إجبار التكرار الذي يجعل ظهور القائد اعتيادياً، وبالتالي يخفّف من تأثير شخصيتهِ وهالتهِ على الجماهير. كما إنّ إلتماساتهِ المتكرّرة في هذا المجال سيُلغي تأثير القيادة الوسطى على الشعب، ويجعل العلاقة بين الجمهور والقائد أوتوقراطية عامودية مهدّدة بالانهيار في حال غيابه. لذلك تستوجب المرحلة الاستعانة بخبراء علم النفس في مختلف مجالاتهِ الاجتماعية والسياسية والاستراتيجية والثقافية، بغية صيانة وتحصين مجتمع المقاومة أمام التحدّيات الراهنة.

يبدو أنّ الأسد المقاوم الذي يزأر في المنطقة قد بدأ يشعر بالإعياء والمرض في جسمهِ البنيوي المتعضّي بشرياً ونفسياً واجتماعياً، وعليهِ أن يتعافى بسرعة، لأنّ النسر الأميركي والذئب الإسرائيلي وضباع الأنظمة العربية متربّصة بهِ، وتنتظر لحظة الانقضاض عليه. لذلك يقف حزب الله اليوم أمام معضلة وجودية حساسة، ينبغي أن تتحوّل معها المقاومة إلى كائن معرفي قادر على: صيانة جهازهِ النفسي وذاتهِ الجماعية، وتعزيز روابطهِ المركزية بالتوازي مع امتداداتهِ الخارجية، ومعالجة مشكلاتهِ واضطراباته الداخلية، وتحصين هويّته الجهادية، وحماية شخصيّته الإقليمية، وبالتالي تشخيص وفهم الآليات الإسرائيلية المشتغلة على إمراضهِ، ثمّ ردّها إلى مصادرها المعادية. فهذه هي آخر جبهات الحرب بين حزب الله وإسرائيل، والمنهزم فيها لن تقوم له قائمة بعدها.