خلال ساعاتٍ، يحطّ رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ في ​البيت الأبيض​، حيث يلتقي الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في سياق زيارته إلى ​الولايات المتحدة الأميركية​، لقاءٌ أعاد الكثيرين بالذاكرة إلى ذلك اللقاء الشهير الذي جمع الحريري بالرئيس الأميركي السابق ​باراك أوباما​ في العام 2011، والذي دخله الحريري رئيسًا لحكومةٍ أصيلةٍ وخرج منه رئيسًا لحكومة تصريف أعمال، بعدما اعتبرها "طعنة في الظهر" تلقّاها من قلب حكومته.

لن يتكرّر السيناريو هذه المرّة، ليس فقط لأنّ الوزير ​جبران باسيل​ يرافق الحريري في زيارته الأميركية، كما يحلو للبعض القول، ولكن لأنّ "قواعد اللعبة" برمّتها تغيّرت، لدرجة أنّ خصم الحريري الأشرس على الساحة ال​لبنان​ية، أي "​حزب الله​"، لا يبدو ممتعضًا بالحدّ الأدنى من سياسته، ولو لم يعلن ذلك، هو الذي يردّد بعض المحسوبين عليه أنّ "صمت" الحريري في قضيّة ​عرسال​، ولو لم يدم طويلاً، هو بحدّ ذاته "شهادة" للحزب، تغنيه عن كلّ ما يمكن أن يُقال...

غموضٌ بنّاء

لأكثر من ثلاثة أيام منذ بدء المعارك العسكرية في ​جرود عرسال​ بوجه الإرهابيين والتكفيريين، بمشاركةٍ واضحةٍ وفاعلةٍ من "حزب الله"، بقي "​تيار المستقبل​" صامتاً على الصعيد الرسمي، صمتٌ لم يخرقه سوى بيانٌ عام خُصّص لنعي نائب رئيس ​بلدية عرسال​ السابق أحمد الفليطي الذي قضى بصاروخٍ موجّه، أعلن الجيش أنّ "​جبهة النصرة​" أطلقته.

خلال هذه الأيام الثلاثة، اختفى معظم قياديّي "المستقبل" عن السمع، تمامًا كما غابت نغمة "رفض مشاركة حزب الله في ​الحرب السورية​"، لتحلّ بدلاً منها استراتيجيّة "صامتة"، لم يُستثنَ منها سوى وزير الدولة لشؤون النازحين ​معين المرعبي​، وهو المعروف بتوجّهاته المعارضة حدّ المعاداة مع "حزب الله"، والذي لم يتردّد بتوصيف الأخير بأنّه "منبع الإرهاب"، في وقتٍ كان النائب "المستقبليّ" ​محمد قباني​ يقف على "النقيض"، معلنًا أنّ "المستقبل" ليس في تضاد مع "حزب الله" في معركة الجرد.

اللافت أنّ هذا "الغموض البنّاء" لم يغب عن البيان الذي أصدره التيّار في اليوم الرابع للمعركة، حيث أعاد التذكير ببعض "الثوابت" بالنسبة للسياسة "المستقبليّة"، لجهة رفض إضفاء الشرعية على مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية، واعتبار ​الجيش اللبناني​ والقوى الأمنية الشرعية، الاداة الحصرية للدفاع عن لبنان واللبنانيين وحماية الحدود. وقد رأى البعض أنّ هذا البيان الذي صدر متأخّرًا، على طريقة "خير من أن لا يأتي"، جاء في الدرجة الأولى لرفع العتب، والمسؤولية، خصوصًا بعدما فُسّر الصمت على أنّه تماهٍ كاملٍ مع الحزب.

ولا يبدو هذا التفسير مستبعَدًا بالمُطلَق، باعتبار أنّ الواقعية السياسية فرضت ما يمكن وصفه بـ"تقاطع المصالح" بين الجانبين، خصوصًا أنّ "تيار المستقبل" هو من أكثر المتضرّرين من تواجد الإرهابيين والتكفيريين في محيط بلدة عرسال، وبالتالي فهو مع دحر الإرهاب عن هذه المنطقة المحسوبة على بيئته بشكلٍ أو بآخر. ولا يخفى على أحد أنّ تقاطع المصالح هذا تُرجِم من خلال ما يحكى عن ضوء أخضر تلقاه الحزب من الحريري عشيّة المعركة، وهو الذي كان يتفادى مثل هذه المعركة في السابق نظرًا لخصوصيّتها الطائفية والمذهبية، ويندرج الإعلان عن المعركة سلفًا من قبل الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، بخلاف العادة في المعارك العسكرية، في هذه الخانة بالتحديد، وذلك لتمهيد الأرضية للمعركة.

الزيارة لا تضرّ...

​​​​​​​لا تطبيع كاملاً في العلاقات بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، ولا شهر عسل ولا من يحزنون، ولكن في المقابل أيضاً، لا شحن ولا توتر ولا حقد ولا ضغينة.

قد تختصر هذه المعادلة العلاقة القائمة حاليًا بين الجانبين، والتي يعزّزها، بخلاف ما قد يظنّه البعض، "تعليق" جلسات الحوار الدورية التي كانت تعقد في عين التينة، تحت عنوان "فضّ الاشتباك" و"تنفيس الاحتقان"، في ضوء الاستراتيجية "الانفتاحية" التي انتهجها رئيس الحكومة سعد الحريري منذ ما قبل عودته إلى ​السراي الحكومي​، وبدء تقديمه التنازلات على أكثر من مستوى.

ومن هذا المنطلق بالتحديد، لا يبدو سيناريو 2011 قابلاً للتكرار اليوم، لكون العلاقة الثنائية التي بناها الحريري مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ومن خلفه "​التيار الوطني الحر​"، تشكّل للرجل "حصانة" بكلّ ما للكلمة من معنى، تقيه من أيّ "اهتزازاتٍ" يمكن أن تطرأ هنا أو هنالك، ولكن أيضًا بالنظر إلى أنّ ظروف العلاقة الثنائية بين "المستقبل" و"حزب الله"، كما ظروف زيارة الحريري إلى الولايات المتحدة الأميركية اليوم، لا تشبه أبدًا تلك التي كانت سائدة سابقاً.

وفي هذا السياق، يبدو واضحًا أنّه، بخلاف ما حصل في العام 2011، لا تشكّل زيارة الحريري تحدياً أو استفزازاً لأحد، بل إنّ هناك قناعة بأنّها، إن لم تنفع، لا تضرّ، علمًا أنّ الحريري سيناقش موضوع العقوبات الأميركية على "حزب الله"، من منظورٍ إيجابيّ، خصوصًا لجهة تحييد ​الشعب اللبناني​ عن أيّ تداعياتٍ محتملة، بما يعيد إلى الأذهان الدور الذي كان يلعبه والد الحريري، رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، في الخارج. وعلى الرغم من أنّ الرهانات على أيّ خرقٍ على هذا الصعيد ليست كبيرة، إلا أنّ البعض يتحدّث عن "مرونة أميركية" على هذا الصعيد، في ضوء المعارك التي يقوم بها الحزب حاليًا، والتي لم تكن لتنشب لولا "غضّ النظر" الغربي، في الحدّ الأدنى.

وبعيدًا عن ملفّ العقوبات، فإنّ الملفات التي ستحضر في صلب محادثات الحريري الأميركية لا يعارضها "حزب الله"، بل هو من أشدّ المؤيّدين لها، وفي طليعتها ملف النازحين السوريين، وضرورة أن تلعب الأسرة الدولية دورًا هامًا في معالجة وضعهم، خصوصًا بعد تفاقم أعدادهم بما يفوق قدرة لبنان على الاستيعاب، علمًا أنّ الحزب يشجّع التوصّل إلى آلية لعودة النازحين السوريين إلى بلادهم، خصوصًا في ضوء توافر مساحات آمنة لهم. وفي السياق نفسه، يندرج موضوع المساعدات الأميركية للجيش اللبناني، الذي سيثار خلال الزيارة، استباقاً للزيارة التي سيقوم بها قائد الجيش العماد جوزيف عون إلى الولايات المتحدة في شهر آب المقبل.

موافقة ضمنية!

في بيانه المتأخّر ثلاثة أيام، رفض "تيار المستقبل" إضفاء الشرعية على مشاركة "حزب الله" في الحرب السورية، وأسف للدونية في مقاربة الاعتراض السياسي على زج لبنان بالحرب السورية، وأعرب عن حزنه لسقوط العديد من الشباب اللبناني في آتون حروب، وجدّد الدعوة الى الالتفاف حول الجيش اللبناني والقوى الشرعية.

في مفارقةٍ لافتةٍ، لم يأتِ التيّار على ذكر "​معركة عرسال​" بالاسم، بل اكتفى بالعموميّات حول "الحرب السورية"، وأكثر من ذلك، غابت عبارات "الادانة" و"الاستنكار" و"الاستهجان" وغيرها من العبارات المشابهة التي لطالما طبعت خطابه إزاء الحزب.

لا يعني هذا الكلام أنّ "المستقبل" بات موافقاً على سياسة الحزب أو حليفاً له، ولكنه يعني في جملة ما يعنيه أنّه موافق ضمنًا، ولو بخجل، على المعركة الجارية، ولو تطلّبت "الحرب النفسية" أن يقول غير ذلك...