لم تنتهِ "عاصفة" الحرب الكلاميّة المُعلَنة بين وزيري الداخلية ​نهاد المشنوق​ والخارجية ​جبران باسيل​ فصولاً بعد، خصوصًا بعدما رفع الأول سقف "المزايدات" عاليًا، بهجومه على الثاني، على خلفيّة تصويت ​لبنان​ ضدّ مصر في منظمة "​الأونيسكو​"، كما ألمح، رغم أنّ التصويت بقي سريًا، ولم يتمّ إعلانه من قريبٍ أو من بعيد، ما عرّض العلاقة بين كلّ من "​تيار المستقبل​" و"​التيار الوطني الحر​" لخطرٍ جدّي.

وسواء كان موقف المشنوق ذاتيًا أم منسّقًا مع رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، فإنّ المفاجأة كانت بتلقّيه "طعنةً" من داخل البيت "المستقبليّ"، وتحديدًا من النائب ​عقاب صقر​، الذي لم يتردّد بالقول أنّ وزير الداخلية "اجتهد فأخطأ"، ما يطرح علامات استفهامٍ بالجملة عمّا إذا كنّا أمام "صراع أجنحة" جديد داخل "التيار"، والمفارقة أنّه يتمّ اليوم بين من كانوا حتى الأمس القريب من الدائرة الضيّقة المحيطة بالحريري.

يد يُمنى ويُسرى...

عندما أطلق وزير الداخلية نهاد المشنوق موقفه ضدّ وزير الخارجية جبران باسيل على خلفيّة التصويت في "الأونيسكو"، بدا الأمر للوهلة الأولى منسَّقًا مع رئيس الحكومة سعد الحريري، خصوصًا أنّ المشنوق لا يزال بالنسبة لكثيرين بمثابة "اليد اليمنى" للحريري، وبالتالي فإنّ الرجل يستطيع أن يقول بصوتٍ عالٍ ما يفكّر به رئيس الحكومة في الخفاء، أو بمعنى آخر، أن "ينوب" عن الحريري في إرسال الرسائل السياسية، من دون أن "يورّطه" بشكلٍ أو بآخر، ويعرّض تحالفاته السياسيّة لأيّ اهتزازٍ قد يطيح بها أو ببعضها.

لكن، في مقابل وجهة النظر هذه، برزت وجهة نظر أخرى تقول أنّ الوزير نهاد المشنوق "اجتهد" من تلقاء ذاته، خصوصًا أنّ الكثير من التسريبات الصحفية تشير إلى عدم وجود نيّة لدى الحريري لترشيحه للانتخابات النيابية المقبلة عن أحد المقاعد السنية في ​مدينة بيروت​، وأنّه بالتالي سيلتحق بمجموعة من النواب الذين قرّر الرجل إعفاءهم من خدماتهم البرلمانية، ليس لأنّه من "المغضوب عليهم" حريريًا كغيره، بل لأنّه من "المغضوب عليهم" شعبيًا، بعدما كان "عرّاب" التنازلات التي أقدم عليها الحريري، فضلاً عن قنوات التواصل التي فتحها مع "​حزب الله​" في وقتٍ سابقٍ. وقد يكون هذا الأمر هو الذي يدفع بالمشنوق إلى الذهاب في "المزايدات الانتخابية" حتى النفس الأخير، خصوصًا أنّ تصعيده يأتي دائمًا مدروسًا، أمام الفعاليات "البيروتية"، الأمر الذي قد يندرج في خانة "ترتيب وضعه" ليفرض نفسه مرشحًا واقعيًا للانتخابات المقبلة.

من هنا، سواء كانت مواقف المشنوق التصعيدية منسّقة مع الحريري أم عبارة عن مزايدات "فرديّة"، على أبواب الانتخابات النيابية المرتقبة في شهر أيار المقبل، كما يرجّح كثيرون، باعتبار أنّ الرجل أحرج، من حيث يقصد أو لا يقصد، الحريري، الذي يفترض أّنّ الوزير باسيل نسّق معه الموقف في "الأونيسكو"، فإنّ الأكيد أنّ النائب عقاب صقر، الذي يُعتبَر للمفارقة بمثابة اليد اليُسرى للحريري في مقابل اليد اليُمني أي المشنوق، استُدعِي لـ"ترميم" ما يمكن "إصلاحه" في العلاقة بين "المستقبل" و"الوطني الحر"، خصوصًا أنّ رئيس الحكومة لا يزال متمسّكًا بالعلاقة مع رئيس الجمهورية ومن خلفه "التيّار" في هذه المرحلة، بغضّ النظر عن كلّ الاختلافات، وذلك لأسباب ودوافع "انتخابيّة" أيضًا، فضلاً عن مقتضيات "جنّة الحكم" التي يتقاسمانها، والتي يشكّل تفاهمهما بالحدّ الأدنى على خطّها أساسًا لاستمرار "المساكنة" بينهما بأقلّ الأضرار الممكنة.

سنيورة جديد؟!

بمُعزَلٍ عن نظرية "المؤامرة"، وما يتفرّع عنها من نظريّات وفرضيّات، تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ، فإنّ مجرّد ظهور هذا التباين في الآراء داخل كتلة "المستقبل" يعيد إلى الأذهان صورةً قديمة بذل رئيس الحكومة سعد الحريري جهدًا كبيرًا لوضع حدّ لها، ألا وهي مشهديّة "صراع الأجنحة" التي كانت رائجة خصوصًا إبان "الغربة القسرية" للحريري، والتي تحوّل معها رئيس الحكومة الأسبق ورئيس "الكتلة الزرقاء" ​فؤاد السنيورة​ إلى "الرجل الأول" داخل التيّار، والآمر الناهي فيه، بل كان يحكم قبضته على "جناحٍ خاص" داخل الكتلة، يضمّ نواباً محسوبين عليه، لا يتردّدون في "التمرّد"، بإشارةٍ منه، على الحريري إذا لزم الأمر، وبعض هؤلاء انكفأ اليوم بشكلٍ واضحٍ عن المشهد، فيما أخرِج البعض الآخر منه بالضربة القاضية، وبات خارج المعادلة "المستقبليّة".

وتمامًا كما كان يكثر الحديث يومها عن "تبادل أدوار" فيما بين الحريري والسنيورة، باعتبار أنّ الثاني يمتلك مجالاً أوسع للمناورة من الأول، وكان يستطيع أن يذهب بعيدًا في رفع السقف، عادت نظرية "توزيع الأدوار" لتتداول اليوم من باب أنّ المشنوق يحاول، على طريقته، التعويض عن اضطرار الحريري للنأي بالنفس للحفاظ على مصلحته في السلطة، وبالتالي عدم تعريض "الحيثية الشعبية" لـ"المستقبل" لأيّ خسارةٍ. وإذا كان ليس خافيًا على أحد أنّ المشنوق يطمح إلى أن يكون "السنيورة رقم 2" في كتلة "المستقبل"، بمعنى أن يكون هو البديل الواقعيّ للحريري في حال تطلّب الأمر اعتكافه لأيّ سبب، فإنّ "الفوارق" الكثيرة بين الحالتين تؤكد أنّ مرحلة "السنيورة" داخل كتلة "المستقبل" لن تتكرّر في المدى المنظور.

ويكفي للدلالة على ذلك أنّ الحريري ليس بوارد العودة إلى التجربة القديمة التي يعلم علم اليقين أنّها تضرّه أكثر ممّا تنفعه، خصوصًا أنّها تُظهِره بصورة "الزعيم" العاجز عن ضبط تيّاره وتوحيد رؤيته وأهدافه، فضلاً عن كونها تُظهِر التيّار منقسمًا على نفسه، وكأنّه يعيش حالة "فصام" ليست صحية في الأحزاب السياسية. أكثر من ذلك، ثمّة من يقول أنّ الحريري لو أراد العودة لمثل هذه الحالة، فإنّ المشنوق، المعروف بقربه منه، لن يكون الشخصيّة الأنسب، بل لقام بكلّ بساطة بإعادة إطلاق يد السنيورة، وبالتالي إعطائه الضوء الأخضر للتحرّك من جديد، وليس تسريب المعلومات عن نيّته الاستمرار في "تحجيمه"، وذلك من خلال التخلي عنه في الانتخابات النيابية المقبلة.

لا عودة للوراء!

المشنوق اجتهد فأخطأ، معادلة أطلقها النائب عقاب صقر، وكأنّه يقول أنّ "تيار المستقبل" بريءٌ من كلام وزير الدخلية، وزاد على ذلك ثناءً على وزير الخارجية جبران باسيل الذي، كما يخطئ أحياناً، فهو يصيب أحياناً أخرى.

تفسيراتٌ متعدّدة أعطيت لهذا الكلام، فهناك من قال أنّ رئيس الحكومة يوجّه من خلاله رسالة للمشنوق نفسه، لأنّ "تفرّده" بدأ يحرجه، في أكثر من مكان، وهناك من قال أنّها مجرّد محاولة لـ"ترطيب الأجواء"، بعدما أدّى كلام المشنوق الغرض منه.

في الحالتين، ثابتٌ واحد، الحريري ليس بوارد العودة إلى الوراء، لا تنظيميًا داخل التيّار، ولا سياسيًا مع "الوطني الحر"، على الأقلّ حتى إشعارٍ آخر قد تفرضه الانتخابات النيابية لاحقاً...