رويدًا رويدًا، بدأت القوى السياسية باستيعاب صدمة استقالة رئيس الحكومة ​سعد الحريري​ المفاجئة والمدويّة، على الرغم من كلّ الغموض الذي لا يزال يحيط بها، والذي دفع رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ إلى التروّي والتريث في اتخاذ الإجراءات الدستورية المفترضة، ريثما تتّضح الوقائع وتنضج الصورة العامة.

وإذا كان الرئيس عون ينتظر عودة الحريري إلى ​لبنان​ قبل إعلان الحكومة مستقيلة بصفةٍ رسميّة، فإنّ كلّ المعطيات تؤكّد أنّه لن ينتظر إلى ما لا نهاية، وبالتالي سيجد نفسه ملزمًا، سواء عاد الحريري في المدى المنظور أم لم يعد كما يتكهّن البعض، إلى الدعوة لاستشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس حكومة جديد خلفاً للرجل.

وبالانتظار، يبقى السؤال الأكبر، هل من "فدائيّ" يمكن أن يقبل بـ"خلافة" الحريري اليوم، في ظلّ كلّ اللغط الحاصل؟ وبناءً عليه، ما هي "السيناريوهات" المتوقّعة للمرحلة المقبلة؟.

الطامحون كُثًر...

وسط كلّ المعمعة الحاصلة، والتي لا يزال الكثيرون عاجزين عن فكّ الألغاز الكامنة خلفها، وبالتالي كشف الحقائق التي تنطوي عليها، أمرٌ واحدٌ يبدو ثابتًا، وهو أنّ قائمة "الطامحين" ل​رئاسة الحكومة​ واسعة جدًا، ليس من اليوم، وإنما منذ فترة طويلة، وهي تشمل "الأضداد"، سواء من يقاسمون "الشيخ سعد" الميول "المستقبليّة" نفسها، ويدورون في فلكه، على غرار رئيس الكتلة "الزرقاء" ​فؤاد السنيورة​ ووزير الداخلية ​نهاد المشنوق​، أو الذين يعتبرون أنّهم يمتلكون حيثية معيّنة على غرار رئيس الحكومة السابق ​نجيب ميقاتي​، الوزير السابق ​محمد الصفدي​، وكذلك رجل الأعمال ​فؤاد مخزومي​، الذي عبّر أكثر من مرّة في السابق عن جهوزيته للتصدّي للمهمّة في حال اختياره.

وفي المقابل، فإنّ هذه اللائحة تضمّ أيضًا من "يخاصمون" الحريري بشكلٍ أو بآخر، ويُحسَبون على "المحور الآخر" على غرار الوزيرين السابقين ​عبد الرحيم مراد​ و​فيصل كرامي​، من دون أن ننسى الوزير السابق "المتمرّد" على الحريري اللواء ​أشرف ريفي​، الذي كان يراهن أو ربما يمنّي النفس بـ"انقلابٍ" في مكانٍ ما يجعله الرجل الأقرب إلى السعودية في لبنان، وبالتالي مرشحها المُعلَن لرئيس الحكومة، علمًا أنّ هناك من يقول اليوم أنّ الرجل بات قاب قوسين أو أدنى من بلوغ هذا الهدف، وأنّه يمتلك حظوظاً مرتفعة، خصوصًا إذا ما كان الاتّجاه نحو التصعيد كما توحي المعطيات. لكنّ لريفي منافسين داخل كتلة "المستقبل" نفسها، بينهم وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي كان غيابه عن السمع لـ48 ساعة متواصلة بعد استقالة الحريري معبّرًا، قبل أن يكسر الصمت من ​دار الفتوى​ بالأمس. وبطبيعة الحال، يشكّل النائب فؤاد السنيورة جزءًا أساسيًا من اللائحة، هو الذي عادت "الروح" بشكلٍ واضح إليه بعيد استقالة الحريري، بعدما أبعِد قسريًا عن المشهد طيلة المرحلة الماضية التي شهدت تصاعد نجم الحريري وأفول نجمه، بل هناك من يقول أنّه تحدّث خلال يومين أكثر ممّا تحدّث طيلة العام الأول من "العهد".

وعلى الرغم من أنّ رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي أعلن أنّه ليس مرشّحًا لرئاسة الحكومة، لكونه ينوي الترشّح للانتخابات النيابية، إلا أنّ العارفين يؤكدون أنه لن يعتذر في حال لمس اتجاهًا لتسميته، ولو تطلّب الأمر انكفاءه عن الترشّح شخصيًا للانتخابات، علمًا أنّ أحدًا لم يقل بعد أنّ الحكومة المقبلة ستكون مجرّد حكومة انتقالية تشرف على الانتخابات، وبالتالي فإنّ رئيسها وأعضاءها يمكن أن يترشحوا للانتخابات، وهو ما حصل مراراً في تاريخ لبنان القديم والحديث، من دون أن ننسى أنّ الحريري كان ينوي الترشح للانتخابات رغم كونه على رأس حكومة أطلق عليها وصف "حكومة انتخابات"، وإن كان خيار حكومة "التكنوقراط" يبقى برأي كثيرين الحلّ الأفضل والأمثل للمرحلة، أو ربما "أهون الشرّين".

"سيناريوهات" بالجملة

رغم طول لائحة الطامحين، أو بالأحرى الطامعين برئاسة الحكومة، فإنّ كلّ المعطيات الثابتة تؤكد أنّ أحدًا منهم لن "يتجرّأ" من تلقاء نفسه على إعلان استعداده للتصدّي للمهمّة في ظلّ الظروف المعقّدة، التي أحدثتها استقالة الحريري من قلب السعودية، التي لا تزال تُعتبَر المرجعية الأولى للسنّة في لبنان. وبالتالي فإن أحدًا من القيادات السنية، على اختلافهم وتنوّعهم، لن يذهب إلى خطوة "عدائية"، علمًا أنّ قوى الثامن من آذار نفسها تتروّى في إعلان أيّ موقف، تحسّبًا لأيّ تداعيات ممكنة، خصوصًا أنّ قناعة راسخة لديها بأنّ الذهاب إلى أيّ حكومة تحدٍ أو استفزاز لن يكون مناسبًا في هذا الوقت، كما أنّ الشخصيات الوازنة سنيًا نفسها ليست بهذا الوارد، خصوصًا أنّ خطوة من هذا النوع ستخسرها الكثير من رصيدها الشعبي، عشية انتخابات نيابية مفترضة في شهر أيار المقبل.

وفي هذا السياق، لا تبدو جائزة المقارنة مع ما حصل في السابق حين سُمّي رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة خلفًا للحريري، بعد إسقاطه بالضربة القاضية أثناء زيارته إلى ​الولايات المتحدة الأميركية​ ولقائه الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​، باعتبار أنّ الظروف كانت مختلفة، وحتى لو أنّ الخطوة يومها لم تكن مرضية للسعودية، إلا أنّها لم تكن بأيّ شكل إعلان حرب أو مواجهة معها، كما يمكن أن توصّف أيّ خطوة مشابهة اليوم، خصوصًا أنّ أيّ رئيس حكومة سيكون مضطراً للتعاطي مع "​حزب الله​" وإدخاله في صلب تشكيلته، إلا في حال تمّ الذهاب إلى حكومة تكنوقراط تستثنى منها جميع جميع القوى الحزبية.

عمومًا، يمكن القول أن سناريوهات المرحلة المقبلة كثيرة، لعلّ أكثرها أرجحية، إعادة تسمية الحريري نفسه بموجب ​الاستشارات النيابية​، ليبنى على الشيء مقتضاه، إلا أنّ هذا السيناريو مرتبط بمصير الحريري وما إذا كان سيعود إلى بيروت أم سيبقى في الخارج، وما إذا كان سينكفئ عن المشهد، أم سيسمّي من ينوب عنه في المرحلة المقبلة كما كان يحصل مثلاً خلال حكومات فؤاد السنيورة وكذلك حكومة ​تمام سلام​. وعلى المنوال نفسه، ترتبط باقي السيناريوهات المطروحة باتجاه الأمور في المرحلة المقبلة، وما إذا كانت استقالة الحريري إعلان حرب من قبل السعودية والذهاب إلى تصعيد، أم أنّها مرتبطة بالشؤون الداخلية السعودية ربطًاً بتوقيف الأمراء، ولكلّ من السيناريوهين في هذه الحالة أربابه، علمًا أنّ أيّ سيناريو سيُعتمَد لا بدّ أن يمرّ من خلال السعودية أو الحريري.

ولا يبدو سيناريو الفراغ مستبعَدًا، بل يسود اعتقادٌ بأنّ الغلبة ستكون له في النهاية، بل إنّ هناك من بدأ يفكّر بأنّ حكومة تصريف الأعمال ستدوم طويلاً، كما أنّ مراجع كثيرة بدأت تطرح أسئلة مشروعة عمّا إذا كان بمقدور حكومة تصريف الأعمال تنظيم الانتخابات النيابية، نظراً للتعقيدات المتشابكة الكثيرة التي تبدو البلاد مقبلة عليها في القادم من الأيام.

الرئيس لن يسكت؟!

هكذا، تبدو الصورة واضحة: الطامعون برئاسة الحكومة أكثر من عدد أصابع اليدين مجتمعةً، وكذلك السيناريوهات الممكنة لمرحلة ما بعد استقالة سعد الحريري المدوية، إلا أنّ كلّ شيء يبقى معلّقاً حتى إشعارٍ آخر، إشعار قد لا يحين أوانه قبل كشف ملابسات ما حصل.

وحتى ذلك الحين، تبقى الأنظار مصوّبة نحو رئيس الجمهورية، الذي يُقال أنّه اعتبر ما حصل إهانة شخصية له واستخفافاً بموقعه، وهو أمرٌ يقول العارفون به أنّه لا يمكنه السكوت عليه، مهما كان الثمن...