وصلنا متأخرين قليلاً... بضعة دقائق فقط... فقد أنهت السفينة الراسية في الميناء التابع لشركة الترابة الوطنية "السبع" مهمتها وأفرغت حمولتها من مادة "البتروكوك" التي سرعان ما انتقلت إلى مخزن خاص بها.

ولكن، لا داعي للوصول بوقت محدد على أي حال لرؤية الواقع المؤلم الذي يترتب عن هذه العملية الروتينية التي تقوم بها الشركة، والسبب، باحة تخزين هذه المادة السوداء موجودة في الهواء الطلق، متخطية بذلك بديهيات الإجراءات المعتمدة لتخزينها.

هذا الواقع ليس وليد الأمس القريب، بل قد تخطى عمره الـ15 سنة. فقدر بعض الملفات في لبنان أن تبقى سنوات طويلة دون الوصول إلى أي حلّ، فيما يبقى المواطن اللبناني منسياً ومتروكاً لهمومه... في ظل تصريحات مدوّية لهذا أو ذاك تؤكد له أنه هو محور اهتمامه ومحور "خدمته العامة" وأن همّه هو الأولوية... لكن الواقع يعكس حقيقة مناقضة تماماً.

فرّق تسد!

"النشرة" زارت بلدة "شكا" الغارقة في مشاكلها البيئية والصحية، وتفقدت محيط المخزن المفتوح في قلب منطقة سكنية وبين المنازل والمدافن. هناك، التقت بمجموعة من النسوة يحتسين القهوة على شرفة منزلهنّ، فقالت لنا كلير بولس: "المسألة عمرها سنوات، وما من حلّ... فماذا سيحدث مثلاً إذا طالبنا اليوم بتغطية الهنغار؟"، فيما تابعت ماري رزق: "لا يمكن فتح الشبابيك ليلاً لأن الهواء يحمل معه غبار "البتروكوك" مما يعيق التنفس ويسبب مشاكل في الرئتين، وحتى وإن قاموا بتغطية المخزن، فإن الشاحنات التي تنقل المادة مفتوحة أيضاً وبالتالي فإن المشكلة ستبقى". وتذمرت أخرى من أن الأطفال يلعبون في الطابة أو في أي لعبة خارج البيت "وبيرجعوا سود"، مشيرة إلى أن "تنظيف الشرفة روتين يومي علينا القيام به بسبب الشحتار الأسود".

وفي هذا الإطار أيضاً، أكد لنا عادل رزق الله الذي التقيناه في البلدة أن "كل الناس تريد حلاً لهذه المسألة ولا أحد يريد أن يبقى الضرر"، لافتاً إلى أن "الناس منزعجين جداً من هذا الواقع".

فاسأل من تشاء، لا تجد مواطناً في شكا غير منزعج من هذا الواقع... لكن أهالي الجوار لم يعترضوا يوماً بشكل جدّي على ما يزعجهم منذ سنوات، وذلك، وفق ما شرح أحد أبناء البلدة لـ"النشرة"، يعود بجزء منه إلى سياسة متبعة من قبل الشركة بإعطائهم "دواء للغسيل، أو شفّاطة، أو مكانس، بين الحين والآخر لنزع أثر الغبار"، وهذا ما أكده مختار شكا أرز فدعوس لـ"النشرة"، موضحاً أنهم بذلك "يشترون بعض الناس". وعبّر عن أسفه الكبير لأنه كلما قام أحدهم بالمطالبة بأمر ما في البلدة، لا يتضامن معه آخر لكي لا يعطيه قوّة، وهذا الأمر يحدث بسبب الإنقسام الحاصل في شكا، وهكذا تجري الأمور تحت شعار "فرّق تسد"، وتستمر الحالة على هذا المنوال مع شركات الإسمنت، وما قضيّة هنغار "البتروكوك" إلا مثال على ذلك.

كلّما هبّ الهواء...

تاريخ هذه القضية تلخصه مصادر مطلعة لـ"النشرة"، مشيرة إلى أن "البتروكوك، كالفحم الحجري، هو موضوع محوري لأي صناعة إسمنت، وقد بدأت شركة "سبع" بتجميعه أولاً في هنغار مغلق، ومن ثم، عندما بلغت الحاجة إلى هنغار جديد، بدأت بتجميعه في مكان آخر، وطلبت من البلدية إعطاءها ترخيصا لكي تغطيه". لكن رئيس البلدية، الذي ما زال منذ التسعينات رئيساً، رفض ذلك مراراً لأنه مصرّ على أن تنقل الشركة مكان تجميع "البتروكوك" إلى مكان آخر بعيد عن السكان. إلا أن الواقع الحالي هو كالتالي: الهنغار مفتوح وكلما هب الهواء ملأ الغبار الأسود منازل أهل شكا.

وأضافت المصادر: "عندما كان رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وزيراً للأشغال العامة، طلب من منظمة الصحة العالمية الإطلاع على هذا الموضوع بصفتها جهة محايدة، فتوصلت إلى خلاصة بضرورة تغطية الهنغار منذ العام 2003. ومن ثم صدر مرسوم عن مجلس الوزراء عام 2007 يؤكد الشروط المناسبة لتجميع مادة "البتروكوك"، ومن بينها طبعاً ضرورة التغطية". لكن المصادر لفتت إلى أنّ البلدية حتى الساعة لا تعطيها ترخيصاً بإقفال الهنغار، وقد اتهمت مصادر مطّلعة على هذا الملف رئيس البلدية بأنه يستخدم الموضوع انتخابياً، شارحة أنه "يقول لأبناء منطقته أنه لن يقبل بأن يكون هناك هنغار قرب المناطق السكنية وأنه سينقله إلى مكان بعيد، فيما لم يحدث شيء من هذا القبيل منذ 15 سنة. والشركة بدورها، تعتبر أنها "قامت بواجباتها"، وعدم قيام البلدية بإعطائها الرخصة يخفف عنها عبئاً مادياً.

حاولت "النشرة" التواصل مع رئيس البلدية للإطلاع على وجهة نظره من الموضوع إلا أنه، وبعد أن طلب منا الإتصال في وقت لاحق، أقفل خطّه ولم يجبنا في محاولة للتنصّل، فيما أكد أمين عام هيئة حماية البيئة والتراث في الكورة وجوارها رفعت سابا لـ"النشرة" أن أخباراً كثيرة يتناقلها أبناء البلدة، بعضها داعمة لرئيس البلدية وأخرى ضدّه، بحيث أنه أصبح من الصعب معرفة الحق من الباطل استناداً إلى ما يُقال هناك.

أما المصادر، فتابعت: "عندما كان طوني كرم وزيراً للبيئة عام 2009، وجه كتاباً لوزير العدل يطلب منه تحرّك القضاء للإسراع ببت هذا الملف، لأن من يدفع كلفة المماطلة هم الناس والبيئة"، وما زال أهل شكا ينتظرون حتى اليوم، ويتوقعون الإنتظار لسنوات طويلة أخرى.

مصالح مشتركة بين البلدية والشركة؟

وفي الواقع، فإن دعوى قضائية قائمة بين الشركة والبلدية في الشمال ولم تبت حتى الساعة، ووصلت إلى محكمة التمييز بعد أن ربحت الشركة الحكم الأول ومن ثم الإستئناف. إلا أن مصادر "النشرة" ترجح أن "الشركة ليست مستعجلة على أي حال لتغطية الهنغار بسبب الكلفة الإضافية، والبلدية كذلك... والقضاء يوماً ما سيبت الملف".

هذه "المصالح المشتركة" ينفيها المدير الإداري لشركة "سبع" روجيه حداد الذي يشدد على ان "ما من مصالح أمام القضاء"، موضحاً أن " العلاقة بين شركة الترابة الوطنية والبلدية تحكمها القوانين المرعية الاجراء والمصلحة المشتركة هي المصلحة العامة لمنطقة شكا والجوار".

ويؤكد أن "ملف تغطية الهنغار هو في عهدة القضاء منذ فترة طويلة"، مشيراً إلى "أننا اعددنا دراسة لتغطيته وقد اقتضت ان نشرح المشروع ثلاث مرات للمجلس البلدي اجمع لكن لم نتوصل الى نتيجة".

لم يعط حداد أي وقت محدد لكي يبصر أي حلّ قريب النور، "فعلى القضاء أن يقول كلمته"، لكنه يؤكد أن "نقل الهنغار من مكان إلى آخر أمر مستحيل يتسبب بتوقّف العمل في المصنع كون جميع الامدادات والمعدات الاساسية متصلة به". وهذا ما يؤكده أيضاً رفعت سابا الذي يصف إحتمال نقل مكان الهنغار في الظروف الحالية بـ"المستحيل وغير الواقعي".

أما عضو بلدية شكا ميشال العين، فيفضّل عدم الدخول في تفاصيل الملف، مؤكداً أن "المسألة خاضعة للروتين الإداري وهي بيد القضاء"، محملاً الدولة مسؤولية عدم البت فيها. ويقول: "نحن كبلدية لا نريد هذا الهنغار من أساسه، ولكن إذا اتخذت الدولة قراراً بإبقائه فلا يمكننا حينها أن نقول أي شيء".

"الرجل الكبير" لم يتمكن من حل المسألة...

الرغبة بإزالة الهنغار يعبّر عنها أيضاً المختار فدعوس، ولكنه يقول أنه "إذا تعذر ذلك، حينها يجب تغطيته". ويشرح أن "رئيس بلديتنا رجل كبير، ومتموّل كبير، وليس بحاجة لأن يأخذ المال من أحد"، متسائلاً: "إذا كان بهذه القوة على الصعيدين الشعبي والمادي، ولم يتمكن من حل هذه المسألة فمن سيحلها إذا؟"

ويعتبر أن "ما يجري هو نتيجة تقاذف المسؤوليات والتهم بين الشركة والبلدية، فيما النتيجة واحدة: الهنغار مفتوح، والمنظر بشع، والأهالي منزعجون، أهذا هو الوجه الحضاري الذي نريده لشكا؟". ويتابع: "يستخدم البعض هذا الملف كورقة ضغط: فكلّ ما "دق الكوز بالجرة" يقولون أنهم يريدون إقفاله... وقد انتظرنا 15 سنة ولم تتم إزالته، فنحن لا نريد أن ننتظر 15 سنة أخرى، بل نريد تغطيته بطرق حديثة".

ويرى سابا أن "البلدية لا تعطي الترخيص لأن المنطقة مصنفة سكنية، ولكن ما يفيد المنطقة اليوم هو أن تصنّف صناعية ويعطى الترخيص بالإقفال لأنه في كل الأحوال لن يسكن أحد هناك في ظل وجود هذا المصنع"، كاشفاً أن "غبار الـ"بتروكوك" مضرّ للصحة ولا يجب التعامل مع المسألة بإستخفاف. فبالإضافة إلى ذلك، تتفاعل هذه المادة مع درجات الحرارة وقد تنتج عن هذه التفاعلات إشتعال المواد، ومن هنا ضرورة حفظها ضمن هنغار وضرورة أن يجهّز الهنغار بمعدات لكشف الحريق وإطفائه فوراً، بالإضافة إلى أقنية مياه خاصة تصفّى فيها المياه من المواد الصلبة قبل نزولها إلى البحر".

ويقول: "على البلدية اتخاذ قرار بجعل المنطقة صناعية وأن يوافق عليه التنظيم المدني وبناء على ذلك إعطاء الترخيص". ويدعو إلى "تشكيل لجنة لتقييم أي حلّ هو الأكثر ضرراً على المنطقة: أتصنيف المنطقة سكنية وعدم الترخيص لتغطية الهنغار هو الأكثر إفادة؟ أنا لا أرى ذلك بصراحة".

وسط هذا التجاذب، يبقى الحجر والشرفات والمنازل السوداء في شكا المحيطة بهنغار "البتروكوك" شهوداً على ما قد تحتويه رئتا أبناء شكا... علّ القضاء يبتّ سريعاً بهذا الملف، قبل فوات الأوان.