تمتلئ السياسات والخطط الأميركية بالتسميات الشكسبيرية، المستقاة من أدب الروايات وكثيراً ما تمتلئ التشبيهات التحليلية بتقديم الرواية المقتبسة كمرجع، بحيث لا يجوز التشكيك بدقة سير الوقائع المعقدة للحياة في السياسة والحروب وفقاً لما رسمه الكاتب أو المخرج لشخصية الرواية، نسمع تسميات الحروب فنتذكر عاصفة الصحراء ومثلها مناورة النجم الساطع ومناورة الأسد المتأهب، ونسمع إستراتيجية سياسية أمنية اسمها النوم مع الشيطان، وأخرى اسمها الزوجة والعشيقة، وثالثة اسمها تسمين العجول ورابعة اسمها دعهم يصدمون رأسهم بالجدار، وخامسة إياك وغرفة النوم، وهكذا تتبدل التسميات لرسم إستراتيجيات الدولة العظمى، التي تقرر الكثير من مصائر الشعوب والدول والأمم، وفي تتبع كل تسمية يمكن الحصول على فهم أفضل لكيف تشتغل السياسة وترسم الخطط وتتخذ القرارات الكبرى، في الدولة الأعظم في العالم.

تعاملت الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ عام 1979 بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران مع ما سمته بالحالة الجهادية، والتي صارت لاحقاً تنظيم القاعدة وقبلها حركة المجاهدين وتصير اليوم داعش، وفقاً لعديد من هذه الإستراتيجيات، وليست أي واحدة منها قادرة على اختصار هذه الإستراتيجيات، واللافت أن التبدل من إستراتيجية لأخرى لم يرتبط بولاية رئيس أميركي بعينه أو لوزير خارجية ومدير استخبارات حصراً، بل كان التبديل يجري من إستراتيجية لأخرى في عهود ذات الرئيس وذات الوزير وذات المدير، وبقيت الإستراتيجيات ذاتها منذ بدء العلاقة بفكر القاعدة وتنظيمها وقادتها سلباً وإيجاباً تتبدل وتتنقل وفقاً للمراحل.

تراوحت الإستراتيجيات الأميركية بين خمسة، الأولى هي النوم مع الشيطان وتعني التعاون مع عدو خطير لمواجهة عدو أشد خطراً، وفي مرتين ظهرت هذه التسمية في الوثائق الأميركية عن العلاقة مع القاعدة، مرة يوم تبرير تسليح القاعدة لقتال الجيش الأحمر السوفياتي في أفغانستان منعاً لتلاقي روسيا والصين وإيران عبر أفغانستان، والثانية هي في فترة الحرب على سورية، ومبررات التغاضي عن تنامي حشد المجموعات الجهادية الوافدة إلى سورية، في شرح تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن اعتبار هذه التجمعات أمراً طبيعياً ومشروعاً، لما وصفته «نجدة الشعب السوري بوجه وحشية النظام»، مخففة من المخاطر المترتبة على ذلك ومحدودية حجم وفاعلية هذه المجموعات، لكن مراكز الدراسات الأميركية وكذلك الصحف الكبرى امتلأت بالتقارير التي تكشف وجود خطة بدأت منذ الحرب على ليبيا، لتجنيد مقاتلي القاعدة في معتقل غوانتانامو للذهاب إلى ليبيا، وعن تفاهمات تمت بمعرفة واشنطن بصفقات عقدها وزير الداخلية السعودي محمد بن نايف مع مئات المعتقلين، للقتال في سورية مقابل الإفراج عنهم وإصدار عفو ملكي يطاولهم وتأمين أسرهم أثناء سفرهم للقتال وبعد موتهم.

الإستراتيجية الثانية عرفت باسم الاحتواء المزدوج، وهي إستراتيجية سبق استخدامها في التعامل مع الدول التي كانت في موقع عداوة مع واشنطن، وفرضت الحاجة في مراحل معينة تعاوناً مشتركاً معها، وتقوم على قاعدة تسهيل إمكانية التعاون في ملف والتعادي وصولاً للحرب في ملف آخر، وهنا كتب الكثير عن الاحتواء المزدوج في تبرير التعاطي مع إيران كعدو عموماً وحليف في ملف الحرب على العراق حصراً، كما عن القاعدة في مرحلة التسعينات، «نستخدمها لتوازن رعب مع خصومنا ونقاتلها لمنع توسع سيطرتها»، ويحكى اليوم عن القاعدة أو داعش راهناً في سورية والعراق، فالتعاون ممكن في الحرب على سورية بل ومطلوب، والاستخدام التكتيكي مسموح في العراق لدفع إيران لخفض سقفها التفاوضي، لكن ضمن خطوط حمراء يترجمها نص مفصل لتطبيق الاحتواء المزدوج، في كل حالة يتخذ قرار اعتماده كإستراتيجية ويعمم على اللاعبين الميدانيين سياسيين وديبلوماسيين وعسكريين ورجال استخبارات، ويتضمن الممنوعات المالية والمصرفية والتقنية والجغرافية التي تشكل حدود تطبيق نظرية الاحتواء المزدوج.

الإستراتيجية الثالثة هي عدم الاقتراب من غرفة النوم، وتقوم على التغاضي والتجاهل وعدم التعامل وعدم إعلان الحرب على كيان بعينه أو قوة سياسية أو دولة وحزب، وقد طبقت مع القاعدة كما مع قوى ودول لا تتجانس مع السياسات الأميركية، لكن لا ضرر مباشراً على المصالح الأميركية من الفوضى التي تنشرها وتخلقها هذه القوى والدول وتنتج معها أضراراً تصيب في الغالب أعداء واشنطن، ومضمونها حصر التعامل مع هذه القوى والدول برسم خط أحمر اسمه منع الدخول والتقرب من غرفة النوم الأميركية، والسماح باللعب والتنقل في غرف الدار والمطبخ والصالون، وتحدد مذكرة مفصلة الحالات والمواقع والمصالح التي ينطبق عليها توصيف غرفة النوم الممنوع الاقتراب منها، والتي يشكل تخطي عتبتها مبرراً لإعلان الحرب ونقل العلاقة من التغاضي إلى المواجهة، في حالة داعش اليوم الواضح، أن جنون أميركا قد حدث يوم بدا أن داعش سيدخل إلى أربيل، وأن ما بناه الأميركيون في سنوات عشر ينهار كلياً، وتسقط القلعة التي راهنوا أنها تحمل كنزهم الذهبي في مجال الاستخبارات والاستثمار والأنشطة الاقتصادية، لتكون جمعاً بين دبي وتل أبيب في آن واحد.

الإستراتيجية الرابعة هي دعهم يصدمون رأسهم بالجدار، وتطبق أيضاً على كثير من الدول أو القوى، وخصوصاً الحلفاء الحاليون ولكن خصوصاً السابقون، وبصورة أخص في مراحل استدارة السياسات الأميركية وذهابها إلى التسويات بعد زمن حروب يصعب على من شاركوا واشنطن خوضها، أن يتفهموا بسرعة ديناميات التغيير التي تفرضها وملاقاتها، فتترك هذه القوى والدول تلاقي مصيرها لتصطدم بالحقائق المرة وتتلقى الخسائر وتستدير أو تستنجد طلباً للمعونة بالاستدارة، وفي حالة القاعدة كانت مرحلة ما بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، وتوقعات القاعدة المرتفعة بنيل جائزتها بحكم أفغانستان، بينما واشنطن قررت منح الفرصة لتحالف الشمال وسواه من القادة الأفغان لمواكبة مرحلتها الجديدة.

الإستراتيجية الخامسة هي تسمين العجول وتقوم على تكبير وتعظيم قوى أو دول لطرح رأسها على طاولة التفاوض مع الخصوم الذين تصعب هزيمتهم، فيجري تحديد حلفاء بعينهم ليسوا من صلب البينة الإستراتيجية للمصالح الأميركية العليا، ويقدمون كبش فداء بعد تعظيمهم كطرف فاعل، وتوضع في خدمة تعظيمهم الآلة الإعلامية والديبلوماسية الأميركية، لتحقيق هذا التعظيم، وفي حالة القاعدة مرت هذه الحالة لكن ليس للمساومة على رأس القاعدة بل لتبرير حربي العراق وأفغانستان، اللتين بدا واضحاً لاحقاً أن القاعدة لم تكن إلا الذريعة لخوضهما.

في حال داعش يحدث اليوم جمع غريب عجيب بين كل الإستراتيجيات دفعة واحدة، من النوم مع الشيطان والاحتواء المزدوج وعدم الدخول إلى غرفة النوم وتسمين العجول ودعهم يصدمون رأسهم بالجدار، وحديث عن نوم مع شيطان آخر واحتواء مزدوج آخر، والمقصود سورية وإيران، تحالف معهما ضد داعش من دون بلوغ مرتبة إلغاء العداء، وصدم رأس بالجدار للسعودية وعنادها، وتسمين عجل آخر هو المعارضة السورية، لكن في النهاية سيكتشف الأميركي أن ثمة مفردة ومصطلح جديدين لا غنى عن تعلمهما لمواجهة ما يحدث، وهما كلمتي «الجلوس مع الملائكة» للتفاهم، فلا مناص من التفاهم والاعتراف بأن اللعبة تشرف على النهاية، والمكابرة لم تعد تفيد، وثمة مهابة وإبهار يملكان وحدهما هزيمة داعش، سحرهما بيد الثنائي الذي يتشكل من الرئيس بشار الأسد والسيد حسن نصرالله.