في 11 أيلول 2001 وبعد ضرب بُرجي مركز التجارة العالمي في "منهاتن"، تعهّدت الولايات المتحدة الأميركية تدمير تنظيم "القاعدة"(1)الإرهابي الذي بلغ في حينه أوجّ قوّته. وبعد مضيّ نحو 10 سنوات، وتحديداً عند تصفية زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن في 2 أيّار 2011(2)، ظنّ الكثيرون أنّ نهاية هذا التنظيم باتت وشيكة. واليوم، نشهد "سيناريو" مماثلاً، فبعد أنّ بلغ تنظيم "داعش"(3)الإرهابي أوجّ قوّته، وبسط سيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا مُعلناً "الدولة الإسلامية" المزعومة، ونفّذ جرائم قتل مروّعة بحقّ المدنيّين، مُتعرّضاً للولايات المتحدة عبر قتل صحافيين أميركيّين، تولّت واشنطن تشكيل "تحالف دولي" لمحاربة هذا التنظيم، وأوفدت وزير خارجيّتها جون كيري إلى الشرق الأوسط لهذه الغاية، وحرّكت إجتماعاً في جدّة تحت راية "مكافحة الإرهاب". فهل سيتمّ فعلاً تصفية "داعش"، وكم من الوقت ستستغرق المواجهة المُنتظرة؟

كل تصاريح كبار المسؤولين الأميركيين تتحدّث عن معركة طويلة الأمد مع تنظيم "الدولة الإسلاميّة"، بالتزامن مع تأكيد أكثر من محلّل سياسي وعسكري غربي، أنّ لا معركة مُنتظرة بل معارك ومواجهات مفتوحة تستمرّ ليس لأشهر طويلة فحسب، بل لسنوات. وهذا الإعتقاد يتعزّز من خلال رفض الدول الغربيّة كافة المُشارِكة في "التحالف"، إرسال وحدات برّية، حيث أنها ستكتفي بتنفيذ الغارات الجويّة بالتنسيق مع قوى حليفة على الأرض، وبإرسال بعض الأسلحة والمعدّات والذخائر، وبتقاسم المعلومات الإستخبارية، وبالمساعدة في عمليّات التدريب، وبالعمل على محاصرة التنظيم الإرهابي مالياً وإقتصادياً. وبالنسبة إلى الدول العربيّة وتحديداً الخليجيّة منها المنضوية ضمن "التحالف" الناشئ، فهي ستتكفّل بتمويل العمليّات العسكرية والمستلزمات اللوجستيّة للمواجهة، وبالتضييق على عمليّات تهريب الأسلحة وتجنيد المقاتلين، وبدعم الإجراءات الخاصة بمعالجة الأزمات الإنسانية والإجتماعية التي سببها تنظيم "داعش". وبالتالي، تُوجد مشكلة كبيرة تتمثّل في ضعف الوحدات العسكرية التي يُفترض أن تُسيطر ميدانياً على المساحات التي قد يُضطرّ مسلّحو "الدولة الإسلامية" لإخلائها تحت وقع الضربات الجويّة. ومن ضمن المشاكل التي يُواجهها التحالف أيضاً، تباين كبير في الرأي بين عدد من الدول الأعضاء بالنسبة إلى الملفّ السوري، بعكس ما هي الحال بالنسبة إلى الملفّ العراقي، علماً أن القضاء على "داعش" يستوجب ضربها في كل من العراق وسوريا، وليس في دولة منهما دون الأخرى.

وإذا كانت مسألة طول المواجهة مَحسومة ومتوافق عليها، فإنّ مسألة نجاحها مشكوك فيها، باعتبار أنّ الغارات الجويّة على مواقع التنظيمات الإرهابيّة، وقتل القيادات والمسؤولين فيها، وفرض العقوبات الإقتصادية والمالية عليها، وحثّ الدول المعنيّة على منع إنخراط شبابها فيها، لم يُسفر في السنوات الأخيرة بتدمير أيّ تنظيم إرهابي، وإن كانت هذه الإجراءات مُجتمعة قد أضعفت بعضها. والأمثلة كثيرة من أفغانستان حيث عادت حركة "طالبان" إلى العمل بقوّة، مروراً بالصومال حيث فشلت عمليّات قتل رؤساء "حركة الشباب"(4)في وقف جرائمها، واليمن حيث تصاعد نفوذ "تنظيم القاعدة في جزيرة العرب"، خاصة في المناطق القبليّة والمناطق الجنوبيّة، وصولاً إلى نيجيريا حيث يعجز الجيش النظامي المدعوم من الغرب عن منع جماعة "بوكو حرام" السلفيّة الجهادية من تنفيذ جرائم مروّعة بحقّ المدنيّين، وكذلك إلى جمهورية مالي حيث إستطاع تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب" من بسط سيطرته على مساحات واسعة في شمال البلاد، إلخ. أكثر من ذلك، إنّ تضارب المصالح بين مختلف الدول المشاركة في "التحالف" ضد "داعش"، وإختلاف النظرة إزاءها، يجعل الأولويّات مختلفة، ويضع كامل المهمّة على المحكّ.

وبالتالي، ما سيحدث في المستقبل القريب، هو تمويل ودعم لوجستي وجويّ في بعض الحالات لقوى حليفة لواشنطن، أو تلتقي مصالحها مع مصالح الإدارة الأميركية في بعض الأحيان، وذلك لمواصلة مجموعة من الحروب المفتوحة على جماعات إسلامية متشدّدة. وسيتمّ زيادة الضغط في موقع جغرافي محدّد، وتليينه في موقع جغرافي آخر، تبعاً للعبة المصالح ولتبدّل السياسيات والتحالفات التكتيّة، في إطار إستراتيجيّة عامة واحدة مفادها القتال بعناصر الآخرين وبأموال الآخرين أيضاً، صوناً للمصالح الأميركية والغربيّة أوّلاً، ولمصالح الحلفاء بالدرجة الثانية، ولفرض ضغوط على الدول في موقع الخصومة بالدرجة الثالثة. والدُرجَة ("المُوضة") السائدة اليوم تتمثّل بتنظيم "داعش"، بعد أن إستهلك إسم تنظيم "القاعدة" كثيراً، والهدف من مواجهة "الدولة الإسلامية" في حرب إستنزاف مالي وسياسي وعسكري طويلة الأمد، هو كسب المزيد من أوراق الضغط على إيران وسوريا ومحاولة إخضاعهما، ورهن كلّ من العراق واليمن وغيرهما من الدول للنفوذ الأميركي في المنطقة، والإستمرار في فرض المُساومات غير المتكافئة مع دول الخليج، وعقد صفقات تسلّح بأسعار خياليّة، وإطالة أمد معارك الإستنزاف بين الدول والقوى الإسلاميّة، ومحاولة العودة كقوّة عظمى، وغيرها الكثير من الأهداف التي تحرّكها مصالح الإدارة الأميركية أوّلاً وأخيراً.

(1)نواة تنظيم "القاعدة" تشكّلت لمواجهة التمدّد السوفياتي في أفغانستان في نهاية السبعينات، وذلك بتسليح أميركي – غربي لأسباب إقتصادية خاصة بآسيا ولأسباب سياسية عقائديّة ضد خطر النفوذ الشيوعي آنذاك، وبتمويل خليجي لأسباب دينيّة محض، وبدعم من باكستان لمصالح إقليميّة.

(2)نفّذت العملية الناجحة وحدة "كوماندوس" في القوّات الأميركية البحريّة (Seal Team 6) داخل باكستان بالتعاون مع جهاز الإستخبارات الباكستاني.

(3)تنظيم "داعش" إنبثق من تنظيم "القاعدة"، حيث كان يحمل عند إنطلاقه إسم "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، بقيادة "أبو مصعب الزرقاوي". وقد بقيت العلاقات بين "قاعدة العراق" و"القاعدة الأم" جيّدة جداً، حتى العام الماضي، عندما ظهر صراع على السلطة إنتهى بقطيعة بين الطرفين في شباط 2014. وإعتباراً من 29 حزيران الماضي، تحوّل إسم التنظيم الإرهابي من "الدولة الإسلامية في العراق والشام" المعروفة إختصاراً بإسم "داعش" إلى "الدولة الإسلاميّة" في دلالة على النيّة بالتوسّع جغرافياً إلى مناطق أوسع، وفرض "الخِلافة".

(4)نجحت واشنطن بالأمس القريب في قتل رئيس "حركة الشباب" الصومالية، "أحمد عبدي غودان"، في غارة جويّة نفّّذها سلاح الجوّ الأميركي، وذلك بعد ست سنوات على إغتيالها أيضاً رئيس سابق للحركة هو "هاشي فرح آرو". لكن الحركة الإرهابية التي تبايع تنظيم "القاعدة"، سارعت إلى تعيين علي محمود راعي رئيساً جديداً لها، علماً أنّ هذا الأخير يُعتبر أكثر تشدّداً ووحشيّة من كل أسلافه.