منذ أشهر طويلة يتردّد همساً بشكل دائم، وجهاراً في بعض الأحيان من قبل بعض شخصيّات قوى "8 آذار"، ألاّ حلّ للأزمة السياسية الداخليّة في لبنان إلا بعقد "مؤتمر تأسيسي" يُعيد توزيع السلطة وفقَ أسُس جديدة ومُعدّلة، فهل هذا ممكن ووارد ومطروح جدياً في المرحلة الحاليّة؟

بعكس ما يُشاع ويُروَّج له من باب التخويف والتهويل والضغط حيناً، ومحاربة طواحين الهواء حيناً آخر، لا أمل بعقد أيّ "مؤتمر تأسيسي" في المدى المنظور. والأسباب متعدّدة وأبرزها:

أوّلاً: موقف المرجعيّة المسيحيّة الأعلى في لبنان، أيّ ​البطريركية المارونية​، الرافض تماماً لأيّ "مؤتمر تأسيسي"، والكلام العالي النبرة للكاردينال مار بشارة بطرس الراعي في الساعات الماضية والرافض للشغور الرئاسي وللمثالثة ولنقض الدستور والوفاق، هو تجديدٌ واضحٌ لهذا الموقف التقليدي الحريص على عدم توتير الأجواء بمناكفاتٍ وصراعاتٍ قد لا تنتهي. كما أنّ موقف المرجعيّة الإسلامية السنّية المُتمثّلة بدار الفتوى هو غير بعيد عن موقف المرجعيّة المسيحيّة، إنطلاقاً من الحرص على ما كسبته الطائفة السنّية من سلطات عبر بنود إتفاق الطائف قبل ربع قرن.

ثانياً: القيادات السنّية بكامل إتجاهاتها السياسية ترفض تماماً أيّ مسّ بالسلطات التي يملكها رئيس الحكومة منذ ما بعد إتفاق الطائف، حتى أنّه في العام 2008 حاول نائب رئيس مجلس الوزراء آنذاك عصام أبو جمرا المطالبة بسلطات فعليّة لنائب رئيس المجلس، فجاءته الردود عنيفة من رئيس الحكومة في حينه فؤاد السنيورة ومن العديد من المرجعيات السنّية بحجّة أنّ الموضوع يتسبّب بحساسيّة مع الطائفة السنّية. فهل من رفَض منح نائب رئيس الحكومة بعض السُلطات، سيرضى بإعادة جزء من سلطاته التنفيذيّة إلى رئيس الجمهوريّة؟!

ثالثاً: إنّ موقف الطائفة الدرزيّة رافضٌ بدوره لأيّ "مؤتمر تأسيسي"، على الرغم من بعض التصاريح العلنيّة المُغايرة والتي تدخل في باب المُسايرة لا أكثر، باعتبار أنّ ما يتردّد عن إحتمال لإعادة توزيع السلطة السياسية في لبنان بين الطوائف الثلاث الكبرى، أي المارونيّة والسنيّة والشيعيّة، يُضعف أكثر فأكثر الأقليّة الدرزيّة التي تُعاني من نقصٍ عددي كبير مُقارنة بباقي الطوائف اللبنانيّة. وأكثر ما يُمكن منحه نظرياً للدروز، مثل منصب رئاسة مجلس شيوخ بعد إستحداثه، موجودٌ في إتفاق الطائف، وبالتالي لا مجال لأن يوافقوا على إخراجهم من المعادلة السياسية الداخلية عن طريق فرض المثالثة، في مقابل منصب فخري مضى على منحهم إيّاه ربع قرن مع وقف التنفيذ.

رابعاً: إنّ الأطراف اللبنانية كافة فشلت في الإتفاق على قانون إنتخابي جديد، على الرغم من الطروحات الكثيرة التي عُرضَت، فجاء ​التمديد​ الأوّل للمجلس، علماً أنّ طبخة التمديد الثاني إقتربت من النضوج. وهذا مثالٌ آخر على العجز عن إدخال أي تغييرات في النظام السياسي، حتى من دون المساس بسلطات أيّ طرف، فكيف سيكون الأمر عند طرح هذه السلطات على طاولة البحث؟! حتى أنّ التوافق على إنتخاب رئيس للجمهورية يبدو مهمّة مستحيلة منذ نحو ستة أشهر والحبل على الجرّار. فهل هذه أجواء تُوحي بإمكان التوافق على تغيير النظام وتعديل بنود الدستور الحالي جذرياً؟

خامساً: هل يمكن عقد مؤتمر تأسيسي، من دون حسم موضوع خلافي أساسي يتمثّل في "سلاح حزب الله"؟ وإذا كانت عشرات الساعات الحوارية في قصر بعبدا فشلت في الإتفاق ليس فقط على حصرية حمل السلاح بالمؤسّسات الشرعية، بل حتى على مبدأ البحث في قضية السلاح نفسها، فهل يُمكن أن يتمّ حل هذه المعضلة بسحر ساحر في "المؤتمر التأسيسي"؟ وليس سرّاً أنّه جرى التنكّر في مرحلة لاحقة لإعلان بعبدا الذي صدر في العام 2012 والذي ينصّ على مبادئ عامة أكثر منه على صيغ تنفيذيّة، في دليل آخر على أنّ التباعد السياسي هو على أشدّه في المرحلة الحالية.

سادساً: إنّ إتفاق الطائف جاء نتيجة فشل الحصول على دعم إقليمي ودولي لإنجاح "حرب التحرير" التي كان قد أعلنها رئيس الحكومة المُوقّتة في نهاية ثمانينات القرن الماضي العماد ميشال عون، بهدف إخراج جيش الإحتلال السوري من لبنان في حينه، ولم يتم فرض تنفيذ هذا الإتفاق جزئياً وبشكل أعرج إلا بالقوّة، وتحديداً بعد إنهيار مُعارضة "الجنرال" له، إثر تقاتل داخلي في "المنطقة الشرقيّة" سابقاً، وإثر غطاء أميركي–سعودي مَنَح النظام السوري اليد الطولى عسكرياً وسياسياً في لبنان، لمكافأته على مشاركته ضمن "قوات التحالف الدولي" في حرب تحرير الكويت من الجيش العراقي. وبالتالي، أين هي الظروف المُشابهة لعقد أيّ "مؤتمر تأسيسي" حالياً، وأين التوافق بين القوى الإقليمية والدَولية النافذة، مثل السعودية وإيران وروسيا والولايات المتحدة الأميركية مثلاً؟!

في الختام، إنّ الخطة التي تقضي بالتسبّب بشغور منصب الرئاسة، على أن تُستكمل بالوصول إلى نهاية ولاية مجلس النوّاب من دون إجراء إنتخابات جديدة أو التجديد للمجلس الحالي، بهدف إحداث فراغ شامل لا يُمكن الخروج منه إلا عبر "مؤتمر تأسيسي"، لفرض معادلات رئاسية ونيابية وسلطويّة جديدة، لن يُكتب لها النجاح، بفعل الظروف والمعطيات والمواقف الداخلية والخارجية. والإعلان الأوّل لفشل هذه الخطة التي لا يتعدّى كونها "فزّاعة عصافير" عجزت عن تحقيق أهدافها، سيكون عبر وجود أغلبيّة عدديّة للتجديد للمجلس النيابي منتصف الأسبوع المقبل، بغضّ النظر عمّن سيُقاطع الجلسة وعمّن سيرفع الصوت بداخلها أو بعد إنتهائها!