قبل أيام تجاوز لبنان قطوعاً خطراً كاد يطيح بأمنه واستقراره وسلمه الأهلي ويدخله في أتون اضطراب أمني واسع النطاق يستنزف اللبنانيين ويعيد مشاهد الحروب الداخلية التي عانوا من ويلاتها ومآسيها إثر اندلاع الحرب الأهلية العام 1975.

فالضربة الاستباقية التي قام بها الجيش اللبناني في شمال لبنان، باعتقال أحد أبرز قادة الجماعات المتطرفة أحمد سليم الميقاتي، كشفت المخطط الذي كانت قد أعدته هذه الجماعات لتنفيذه في طرابلس وأقضيتها الشمالية والقاضي بالسيطرة على عاصمة لبنان الثانية وإعلان الشمال إمارة داعشية تصدر الإرهاب إلى عموم المناطق اللبنانية، حيث كانت العديد من الخلايا الداعشية تستعد لتنفيذ هجمات إرهابية في بعض المناطق ومنها صيدا في أعقاب الإعلان عن الإمارة في الشمال، وأخذ طرابلس رهينة على غرار بلدة عرسال وجرودها، ليصبح هناك منفذ بحري للجماعات المسلحة تستطيع أن تؤمن عبره إمداداتها من السلاح والمسلحين الأجانب.

وكان من الواضح أن عملية الجيش اللبناني قد أدت إلى تحقيق جملة من الأهداف دفعة واحدة وهي:

أولاً: إرباك مخطط الجماعات المسلحة، ودفعها إلى القيام بردود أفعال متسرعة غير منظمة، وبالتالي جرها إلى مواجهة بتوقيت حدده الجيش الذي استعد جيداً لتوجيه ضربات قوية وحاسمة لهذه الجماعات، وبالتالي إسقاط مخططها، وهذا بالفعل ما حصل، وقد استفاد الجيش من اعترافات الميقاتي حول طبيعة الهجوم الذي أعد للسيطرة على طرابلس وأماكن تموضع المسلحين في المدينة والفري القريبة منها، والاستعدادات التي كانت تحضر لذلك، وقد أدى نجاح الجيش في استدراج الجماعات المتطرفة إلى المواجهة قبل استكمال استعداداتها إلى انزلاقها إلى الفخ الذي نصبه لها الجيش، وبالتالي تمكنه من الإيقاع بها وتوجيه ضربة قصمت ظهرها تمثلت في السيطرة على كل معاقلها، واعتقال العشرات من المسلحين(162)، وكشف واعتقال عدد من الخلايا المتطرفة في مدينة صيدا كانت قد جهزت للقيام بتفجيرات في المدينة.

وقد أكدت المواقع القريبة من زعيم داعش أبوبكر البغدادي انجرار عناصر التنظيم إلى المواجهة مع الجيش اللبناني قبل استكمال الاستعدادات للسيطرة على طرابلس حيث بعث البغدادي برسالة إلى مسؤولي التنظيم في لبنان انتقد فيها انجرارهم إلى المواجهة المبكرة مع الجيش اللبناني وأن الخلايا المنتمية إلى داعش تعمل في لبنان بردات الفعل، كما حصل في عرسال بعد اعتقال أحمد جمعة، وكما حصل في طرابلس بعد اعتقال أحمد الميقاتي.

ثانياً: إسقاط المربعات الأمنية في طرابلس لأول مرة منذ عام 2005 حيث دخل الجيش اللبناني إلى الأسواق، وباب التبانة التي كان يتحصن فيها المسلحون، ما يعني وضع حد لما كان يسمى سابقاً بخطوط التماس ومناطق خارج سيطرة الدولة.

ثالثاً: تنفيذ عمليات دهم واعتقال واسعة النطاق في جميع المناطق أدت إلى اعتقال العشرات من الخلايا الإرهابية التي يعتمد عليها تنظيم داعش لتنفيذ عملياته في لبنان.

رابعاً: تعزيز قوة ردع الجيش اللبناني في معركته ضد الجماعات المتطرفة، ورفع معنويات ضباطه وجنوده، الذين تعرضوا في الآونة الأخيرة للعديد من الاعتداءات المسلحة، وسقط منهم الشهداء والجرحى، فيما وقع العشرات من العسكريين أسرى لدى المسلحين في عرسال، تم نقلهم إلى جرودها، وتجري حالياً مفاوضات لإطلاق سراحهم بوساطة قطرية.

خامساً: سقوط مخطط التحريض على الجيش الذي نجح مجدداً في الحصول على التفاف شعبي ووطني في معركته واسع، وخصوصاً في طرابلس والشمال، حيث كان لافتاً عدم ظهور أي موقف ينتقد الجيش لاسيما في المناطق التي كان يتواجد فيها المسلحون في باب التبانة والأسواق، ما عكس تنفس المواطنين الصعداء لشعورهم بعودة الأمن والاستقرار لأول مرة منذ سنوات.

غير أن المراقبين فوجئوا بسرعة سيطرة الجيش، وهزيمة المسلحين المتطرفين في الشمال.

لكن السؤال، ما الأسباب التي أدت إلى ذلك على الرغم من أن المعلومات والتوقعات كانت تشير إلى أنه لن يكون بمقدور الجيش أن يحسم المعركة مع المسلحين بهذه السهولة؟

إن من يدقق في أسباب الهزيمة السريعة للمسلحين يتضح له الآتي:

1 - ان المسلحين لا يحظون بتأييد شعبي ولا ببيئة حاضنة، فأكثر من 90 في المائة من سكان طرابلس والشمال السنة لا يؤيدون نهج التطرف، ويميلون للاعتدال.

2 - ان الجيش اللبناني على عكس المسلحين يحظى بتأييد شعبي عارم، وينظر إليه اللبنانيون عامة باعتباره أملهم لتفادي الفوضى الأمنية، وعدم الاستقرار، وبالتالي الحفاظ على أمنهم وسلمهم الأهلي.

3 - ان خيار إعادة لبنان إلى أتون الحرب الأهلية لا يحظى بأي شعبية في لبنان لأن اللبنانيين عانوا كثيراً من ويلات هذه الحرب على مدى 15 عاماً، ولا يريدون العودة إلى رؤية مشاهد «قبضايات» الأحياء وحروب «الزواريب» التي ذاقوا بسببها المآسي ودفعوا أثمانا غالية من أرواحهم وأرزاقهم.

4 - ان الأطراف السياسية الأساسية التي تتألف منها الحكومة، لا تريد الانزلاق إلى الحرب الداخلية على الرغم من الأزمة السياسية العاصفة بالبلاد منذ سنوات، والتي أدت إلى فراغ في سدة رئاسة الجمهورية وشبه شلل في دور مجلس النواب الذي يستعد هذه الأيام لخطوة التمديد لنفسه مرة ثانية لعدم الاتفاق بين الأطراف الأساسية على إجراء انتخابات جديدة.

5 - الموقف الدولي والإقليمي لايزال يدعم الاستقرار في لبنان، ولا يريد دفعه إلى أتون الحرب الداخلية، وهو ما عكسته مواقف الدول الكبرى عند أي تطور أمني يحصل في البلاد، وهذا تجسد أيضاً عقب أحداث طرابلس، وتمثل في موقف السفير الأميركي ديفيد هيل.

كل هذه الأسباب مجتمعة هي التي تحول دون انزلاق لبنان إلى الفوضى الأمنية الواسعة، وبالتالي تبقي الأوضاع تحت السيطرة على الرغم من الأجواء السياسية السلبية وحصول اضطرابات أمنية بين الحين والآخر.

خلاصة القول إن لبنان تجاوز قبل أيام قطوعاً أمنياً خطيراً ليتأكد معه أن الأمن ممسوك والقرار بالحفاظ على الاستقرار هو سيد الموقف، على الرغم من الأزمة السياسية المحتدمة في البلاد منذ سنوات والفوضى التي تعم المنطقة.