أطلَّ العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع عبر الشاشة. تصارَعا على كلّ شيء: التمديد وقانون الانتخاب ورئاسة الجمهورية... لكنّهما أظهرا تحالفاً على أمر واحد: ثنائية عون- جعجع ليست نقمة على المسيحيين، وربّما هي نعمة!

مسألة الثنائية أثارَها مقال في «الجمهورية»، في 10 الجاري، يطرح فكرةً قد تصلح منطلقاً للنقاش نحو الخروج من المراوحة المسيحية، الباهظة الثمن، منذ ربع قرن. وتقضي الفكرة بتوسيع دائرة التشاور لصناعة القرار المسيحي، فلا يستمرّ قائماً على «ثنائية سلبية» إسمُها عون- جعجع، بل تتمّ استعادة أحد أشكال «الجبهة ال​لبنان​ية»، بدعمٍ من بعبدا وبكركي.

وفي الأيام الأخيرة، لقيَت الفكرة رفضاً في المعسكرَين المتصارعين، على مستوى القمّة، مع أنّ التعمُّق فيها كان يفترض أن يدفع إلى الترحيب. فأيّ مرجعية لصناعة القرار المسيحي لا تقوم إلّا إذا كان عون وجعجع أساسها. ولذلك، فمرجعية القرار تنهي «ثنائية» الاحتكار السلبي، لكنّها لا تنهي عون ولا جعجع، بل تجعلهما العمود الفقري لمؤسسة القرار المسيحي.

واللافت أنّ جعجع، في ردِّه على أوّل سؤال سياسي في إطلالته المتلفزَة الأخيرة، دافعَ عن «الثنائية» المسيحية. وقال: نحن وعون واجهنا معاً انتخابَ مخايل الضاهر في العام 1988. وأمّا عون فجهَّز، في إطلالته، مطالعةً تاريخية تبرهن أنّ الثنائية المسيحية هي واقعٌ معتاد منذ الاستقلال، وأنّ ثنائيته مع جعجع ليست شاذّة عن النماذج التاريخية.

لكنّ أيّ تقويم حقيقي لِما أنتجَته هذه «الثنائية» للمسيحيين، لم يخطر في بال. فلا أحد يرغب في المراجعة إذا كانت مؤلِمة. والبرهان الأبرز على الحاجة إلى مرجعية تشاورية في صناعة القرار هو ردّ فعل المعسكرَين المتصارعين على طرح فكرة المرجعية.

لكنّ احتكارَ القرار الطوائفي ليس ميزةً مسيحية فقط، بل يشمل الطوائف كلّها... أحادياً أو ثنائياً أو سوى ذلك. ويفتقد لبنان بكلّ طوائفه وأحزابها أو «أشباه أحزابها»، إلى حياة سياسية أو حزبية سليمة وآليات ديموقراطية وهرَميات مؤسسية في الأحزاب والتيارات والحركات والمجموعات، إلّا نادراً وفي أماكن محصورة جداً. وليست هناك آليات تشاورية وتشاركية حقيقية لصناعة القرار داخل كلّ مؤسسة حزبية طائفية، ولا هيكليات حقيقية للتغيير، ولا إشراك للنُخَب في القرار، بل تذويب لها.

وسواءٌ، جرت الانتخابات النيابية أم تمّ التمديد للمجلس، فالنتيجة واحدة عملياً، لأنّ الذين يسمحون بالانتخابات يتحكّمون بقانونها وكامل لعبتِها، ويصادرون المجلس ويتقاسمونه وفقاً للتسويات. وعندما يتمّ التمديد، تتعطَّل «صورة» الديموقراطية... وأمّا «المضمون» اللاديموقراطي فهو معطّل أساساً!

وأمّا اعتماد «الجبهة اللبنانية» كنموذج فليس اضطرارياً، بل هو منطلق للنقاش. و»الجبهة» كانت لها ظروفها في الحرب. وهي ضمَّت قوى موجودة، بعضُها يقاتل على الأرض. لكنّها تبقى النموذج الأقرب إلى تجسيد فكرة المرجعية المسيحية... ولا ضَيْرَ من استيحاء تجربتها، خصوصاً أنّ الثنائية أثبتت فشَلها. ويمكن أيضاً أن يُستوحى نموذج اللقاءات التشاورية في بكركي.

وفكرة المرجعية المسيحية للقرار حرَّكت بعض المياه الراكدة. ويُبدي ركن مسيحي في 14 آذار إهتماماً بها، لكنّه يسأل: أيّ أفُق ستعمَل «الجبهة» في ضوئه؟، لأنّ هذا ما سيتكفّل إمّا بإنجاحها كمرجعية أو إفشالها...

فإذا كان المقصود أن تتولّى «الجبهة» إدارة الصراع الإنتر- مسيحي، وأن ينحصر مداها الرؤيوي ببضع مئات الكيلومترات المربّعة من المناطق المسيحية، فهذا لا ينتج شيئاً، وسيكرّس نوعاً جديداً من الاحتكار الفاشل للقرار.

وفي رؤية هذا الركن أنّ المسيحيين، ومرجعيتهم الموسَّعة، يجب أن تقرأ جيّداً حركة الأحداث ومسارَها في الشرق الأوسط والعالم، وتضع المسيحيين على الخريطة كلاعب قوي، لا هامشي، ولا يمكن الاستغناء عنه. وتحت هذا القوس من الرؤية يكون الحديث عن المرجعية المسيحية منتِجاً. وهناك اقتناعٌ لدى العديد من النُخَب المسيحية بصوابية هذه القراءة.

في اختصار: المسيحيون اليوم أمام الخطوات الأكثر جرأةً في تاريخهم. وفيما ينام بعضُهم على أمجاد دفعَت الأجيال الغابرة ثمنَها دماً وعرقاً، فإنّه ينسى أنّ صناعة الأمجاد للأجيال الآتية مطلوبة منه تحديداً.