سبعة أشهر من الشغور في منصب رئاسة الجمهورية، وكلّ الدلائل والمُعطيات تَنفي إمكان إحداث خرقٍ كبيرٍ في هذا الملف في المستقبل القريب، بعَكس ما يتمّ ترويجه بين الحين والآخر من حَلحَلة هنا، ومن تَسوية هناك، ومن ضَغط دَولي هنالك. فلماذا فشِل المَسيحيّون في ملء المنصب الرسمي الأعلى المُخصّص لهم في الجمهوريّة اللبنانية؟

بداية، ليس صحيحاً أنّ الطائفتين السنّية والشيعيّة تتمثّلان بالشخصيّة الأقوى، للمُطالبة بتعميم هذا المنطق على الطائفة المارونيّة. وإذا كان إستحواذ "تيّار المُستقبل" على نحو 70 % من أصوات الناخبين في دورَتي الإنتخابات النيابيّة الأخيرتين يمنحه نظرياً خيار تسمية رئيس الحكومة، فإنّ عوامل أخرى عدّة لعبت دوراً حاسماً في إعلان إسم رئيس أكثر من حكومة في العقد الأخير. وليس سرّاً أنّ رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي يرأس كتلة "لبنان أوّلاً" الأكبر عدداً في البرلمان اللبناني لقي "فيتو" من الكثير من الأطراف الداخليّة، بسبب تصنيفه من بين "الصقور"، ومُورِسَت ضُغوط كبيرة لعدم عَودته إلى مَقرّ مجلس الوزراء. وليس سِرّاً أيضاً أنّ رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ أُخرج بشكل مُحرج من الحُكومة، وتمّ الإتيان بالنائب نجيب ميقاتي رئيساً للوزراء بدَلاً منه، علماً أنّ زعامة هذا الأخير مَناطقيّة ومحصُورة جُغرافياً. وحتى اليوم، إنّ رئيس الحكومة الحالي، تمّام سلام، والذي وإن كان عضواً في كتلة "لبنان أولاً"، فإنّ تكليفه رئاسة الحكومة الحالية جاء نتيجة تَسوية قضت بتقاسم السلطة، مع تركيز على رفض تَعيين أيّ شخصيّة تُعتبر إستفزازية لقوى "​8 آذار​". وبالتالي، لا يتمثّل السُنّة في لبنان بالشخصيّة الأقوى مذهبياً.

وبالإنتقال إلى الشيعة الذين يتمثّلون نيابياً وبشكل ساحق في تحالف "حزب الله" و"حركة أمل"، فهم لم يأتوا بالشخصيّة الأقوى مذهبياً لديهم إلى رئاسة المجلس النيابي. وليس سرّاً أنّ "حزب الله" هو الذي يُمثّل حالياً الوجدان الشيعي-إذا أردنا التعبير باللغّة المذهبية الصريحة. صحيح أنّ الإمتيازات التي منحها النظام السوري لرئيس المجلس النيابي نبيه برّي في حقبة التسعينات وصولاً إلى العام 2005، لجهة الإمساك بمراكز حسّاسة في الدولة والوزارات والمجالس الخدماتيّة، مكّنته من توسيع شعبيّته عبر توظيف أعداد كبيرة من المناصرين وتوفير كل التسهيلات والخدمات لأعداد ضخمة أخرى، لكن الأصحّ، أنّه من الناحية السياسيّة، يصبّ الثقل الشعبي الشيعي اليوم–وكما يعلم الجميع، في صالح "حزب الله" دون سواه. لكن "الحزب" لا يسعى لأخذ منصب رئاسة المجلس لضرورات مُرتبطة بالإحتفاظ بالقدرة على توزيع الأدوار، لجهة تشدّد "حزب الله" في مقابل إظهار "حركة أمل" بعض الليونة في الملفّات الداخلية، والأهم بهدف الإبقاء على قنوات التواصل الإقليمي والدَولي مَفتوحة عبر برّي، لأنّ وجود "حزب الله" في رئاسة المجلس النيابي، قد يُؤدّي إلى قطع جزء من هذه الإتصالات والعلاقات، نتيجة سوء علاقة "الحزب" مع كثير من الأطراف الخارجية. وبالتالي، لا يتمثّل الشيعة في لبنان بالشخصيّة الأقوى مذهبياً أيضاً.

وبالنسبة إلى المسيحيّين، ففي إنتخابات العام 2005، ولظروف ومُعطيات آنية لا مجال لذكرها هنا، نجح العماد ميشال عون في كسب تأييد ثلثي المسيحيّين، لكن هذه النسبة تراجعت في الإنتخابات التالية في العام 2009 إلى نحو النصف تقريباً، الأمر الذي جعل المسيحيّين مقسومين عملياً إلى تكتّلين سياسيّين عريضين، أحدهما يضمّ "التيار الوطني الحر" بالتحالف مع "تيّار المردة" و"حزب الطاشناق" و"الحزب القومي السوري" (بغضّ النظر عن علمانيّته وضمّه لعدد كبير من المسلمين) وغيرها من الأحزاب المؤيّدة مباشرة أو غير مباشرة لقوى "8 آذار"، والتكتّل الآخر يضمّ حزب "القوات اللبنانيّة" بالتحالف مع "حزب الكتائب" وباقي الأحزاب المسيحيّة والشخصيّات المسيحيّة المستقلّة المُنضوية ضمن تحالف قوى "14 آذار". صحيح أنّ "التيّار الوطني الحرّ" يملك وحده، ومن دون الإستعانة بأي حليف، الكتلة النيابية الأكبر لأي حزب أو تكتّل مسيحيّ، لكن الأصحّ أنّ هذا الواقع لا يُلغي عجز أيّ جهة مسيحيّة عن الإدعاء بتمثيل المسيحيّين بشكل أحادي. والمُشكلة الثانية والأصعب التي يُواجهُها المسيحيّون تتمثّل في الإنقسام في صفوفهم، ليس على مُستوى حجم التمثيل الشعبي فحسب، بل على مستوى الخيارات السياسيّة التي تبلغ مرحلة التضارب والتناقض في كثير من الأحيان. وهذا الإنقسام يجعل من وصول أيّ شخصيّة من الشخصيّات السياسيّة الأوسع تمثيلاً بينهم، تغليباً لتوجّه سياسي على آخر، وغلبة لأحد التكتّلين السياسيّين اللبنانيّين العريضين، أي "8 و14 آذار"، على الآخر.

وفي الخُلاصة، إنّ القوّل بأنّ السُنّة والشيعة في لبنان يتمثّلان بالأقوى على هاتين الساحتين المذهبيّتين غير دقيق. وحتى إذا سلّمنا جدلاً بأنّ هذا القول صحيح، لا مجال لتطبيقه على الساحة المسيحيّة، نتيجة إنقسام عمودي شبه متساو لا يُعطي تقدّماً ساحقاً لأي شخصيّة على أخرى، كما لدى الطائفتين السنّية أو الشيعيّة، وأيضاً نتيجة إنقسام عمودي على المستوى السياسي يتجاوز مسألة التمثيل الشعبي، ويبلغ مرحلة الخيارات التكتيّة والإستراتيجيّة. من هنا، إنّ إعلان "الجنرال" إستعداده للنزول إلى مجلس النوّاب شرط حصر المنافسة مع "الحكيم" دون سواه مع تعهّد النوّاب بالخروج برئيس جديد، لن تجد الصدى المقبول، لأنّ أحداً من الأطراف السياسيّة اللبنانية كافة مُستعدّ لتسليم شخصيّة من الضفّة السياسية المُقابلة مقاليد رئاسة الجمهورية، ولأنّ أكثر من طرف سياسيّ لبناني يَرفض أصلاً وصول رئيس مسيحي قويّ إلى الحُكم، حتى لو كان لا يُشكّل خطراً على الخط السياسي العام الذي يَنضوي فيه، وذلك لاعتبارات مُرتبطة بالحفاظ على السلطة والقدرة على التأثير والتوجيه في الخيارات الكبرى والصغرى على السواء!