عند كلّ استحقاق رئاسي، أو بمعنى أدقّ، استعصاء رئاسي في لبنان، يكثر الحديث عن مخرج لحلّ الأزمة في هذا البلد ذو النظام البرلماني الديمقراطي، لأنّ نظامه الحالي، الذي من المفترض أن يعتمد على أغلبية نيابية وأقلية تقرّر مصير رجوح كفة البلاد إلى طرف دون الآخر، ليس جديراً بتأمين هذا المخرج، ما يثير التساؤل حول التمسّك بهذا النظام، وبمعنى آخر، يثبت هذا الخلل في كل مرة أنّ لبنان لا يتمتع بالديمقراطية الحقيقية التي يدّعي أهله ممارستها.

لا توجد في العالم أي ديمقراطية تشبه ديمقراطية لبنان، وإذا كان اللبنانيون مصرين على اعتبار أنهم يعيشون في بلد ديمقراطي، فذلك لأنهم يتغنون بأمجاد زائفة لا يحظى بها اللبنانيون واقعاً، ليتبين بعد تجربة العقود الماضية أنّ هناك من يرفض رفضاً قاطعاً أن يتمتع أي بلد عربي بالديمقراطية الحقيقية، لما في ذلك من خطر على انتقال النموذج الديمقراطي إلى دول أخرى في المنطقة، ورفع منسوب الوعي وتفرّد الدولة و تقدمها في وجه «إسرائيل» أولاً، وأوروبا ثانياً، وبالتالي فإنّ عرقلة الديمقراطية في هذا البلد لا يمكن اعتباره في كل مرة صدفة، أو ظرفاً طارئاً، أو تداركاً لاندلاع حرب أهلية جديدة.

إنّ التطبيق الحقيقي للديمقراطية في لبنان، يعني منع التدخل الخارجي في شؤونه، وبالتالي سقوط فرضية النفوذ المبعثرة للقوى الإقليمية ومن هنا تأتي «التوافقية» عند كل استحقاق.

توافق اللبنانيون على التمديد بمؤامرة كبرى، نتيجتها عدم التوصل إلى توافق آخر يجري البحث عنه حالياً في موضوع رئاسة الجمهورية، حتى بات التوافق متوافقاً عليه من أجل توافق آخر.

قد يرفض دعاة التوافقية اعتبارها خارجة عن التمثيل الديمقراطي، معللين ذلك بأنه في حال تشكيل حكومة توافقية أو ائتلافية، فإنّ الأطراف كافة تتمتع بحق الفيتو من أجل منع احتكار السلطة، متناسين أنّ هذا التوافق يعني أمراً واحداً، لا نقاش فيه و هو أنّ هناك ضغطاً ما أو ظرفاً يمنع ممارسة الديمقراطية، وهذا الظرف في حدّ ذاته، سيكون سياسياً بحتاً قادماً من الدول النافذة، منعاً لممارسة الديمقراطية. وبالتالي، لا يمكن للبنان أن يدّعي أنّ ديمقراطيته التوافقية هي أحد أشكال الديمقراطية التي تتجسّد في العالم برابح أو خاسر، ولا يمكن اعتبار لبنان بلداً ديمقراطياً في كل المقاييس.

لقد خانت الكتل النيابية الشعب اللبناني برمته بالتوافقية، عبر التمديد لمجلس نيابي فيه النائب خالد الضاهر، متمتعاً بكامل حقوقه من دون أي مساءلة أو محاسبة على ما نسب إليه.

هذا واحد من الأمور التفصيلية أو أحد الأمثلة التي تؤكد أنّ النواب الذين يمثلون الشعب اللبناني لا يمثلون رأيه وموقفه بأمانة، بل إنّ المصلحة السياسية تلعب الدور الأول والأخير في أي قرار، ففي لبنان لا مصلحة داخلية على الإطلاق بل الجميع ينفذ مصالح الخارج.

لا تدّعي الولايات المتحدة أنها دولة ديمقراطية، لأنّ الديمقراطية فيها تمارس وتحترم قولاً وفعلاً، لكنّ اللبنانيين الذين يتغنون بأمجاد زائفة، بالغوا كثيراً في ادعائهم الانتماء إلى بلد ديمقراطي حتى أسهبوا في وهم التفوق على باقي الدول العربية وأنظمتها، متناسين أنهم من دولة عربية أيضاً وممنوع عليهم أن يتمتعوا بأي ديمقراطية في جوار «إسرائيل».

وحده لبنان يحتاج إلى توافق العالم لانتخاب رئيس جمهوريته، أو بالأحرى يحتاج إلى تدخل دول العالم لكي تتوافق على رئيسه.

وبالعودة إلى الولايات المتحدة، يحكم الرئيس الفائز لولاية محدّدة، على أن يحترم الخاسر فوز الرابح ويترك له الفرصة ليحكم، وهذا الأمر نفسه في فرنسا.

أما في لبنان، فإذا جرت الانتخابات الرئاسية، من دون مرشح 8 آذار الذي أعلن أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله أنه العماد ميشال عون، أو مرشح 14 آذار الذي يختاره هذا الفريق مقابل عون، فإنّ ذلك يعني اللجوء إلى التوافق، أي إلى اختيار رئيس ضعيف. وإنّ كلّ مشارك في اختيار رئيس توافقي هو مشارك في نسف العملية الديمقراطية، وبالتالي آن الأوان لعدم نسب أشكال أنظمة إلى دول لا تتمتع بها.

وحدها التوافقية تكرّس شكلاً جديداً من أشكال الديكتاتورية التي تفرض بقوة الأمر الواقع حكماً أو ظرفاً على بلد برمته. وقد حان الوقت لكي يعرف اللبنانيون أنّ الديمقراطية هي حكر على الدول الكبرى فقط وأنّ تلطيهم خلفها وخلف الفتاوى الدستورية في شأنها، ليس سوى إمعان في الديكتاتورية.