يعزُو العديد من المحلّلين السياسيّين إنهيار الإتحاد السوفياتي السابق ككرة ثلج مُتدحرجة إعتباراً من العام 1989 إلى ثلاثة أسباب رئيسة، هي: إرتدادات الحرب على أفغانستان، وتراجع سعر المُشتقات ​النفط​يّة، وتفاعل الأزمة الإقتصادية داخل الإتحاد الروسي، إلى جانب مجموعة من الأسباب الأخرى المُتفرّقة. فهل التاريخ يُعيد نفسه بهذه السرعة، حيث تتجه ​روسيا​ الإتحادية إلى السقوط بعد ربع قرن من سقوط الإتحاد السوفياتي السابق، نتيجة كل من حرب أوكرانيا، وتراجع سعر النفط من جديد، وتفاعل الأزمة الإقتصادية داخل الكيان الروسي، خاصة في ظلّ العقوبات الإقتصاديّة الأميركية-الغربيّة المفروضة على موسكو؟

بالنسبة إلى المحلّلين الذين يعتبرون أنّ الظروف والمُعطيات الحالية لا تُشبه تلك التي كانت سائدة في نهاية حقبة التسعينات من القرن الماضي، وبالتالي، روسيا الإتحاديّة قادرة على المحافظة على توازنها، فهم ينطلقون من الوقائع التالية:

أوّلاً: إنّ النمط التراجعي لأسعار النفط والغاز لا يُمكن أن يستمرّ على المدى البعيد، لأنّ وقع الأزمة سيطال تدريجاً العديد من الدول، وليس روسيا فحسب. وعلى الرغم من أنّ الإجتماع الدوري لمنظّمة "أوبك" هو بعد نحو ستة أشهر، إلا أنّ لا شيء يمنع من الدعوة إلى إجتماع إستثنائي في أي وقت، لإتخاذ قرار بخفض الإنتاج، والسماح بالتالي بعودة الأسعار إلى الإرتفاع.

ثانياً: بالنسبة إلى إنخفاض قيمة الـ"روبل" الروسي بحدود نصف قيمته في غضون أشهر قليلة، فهو سيُعزّز القدرة التنافسيّة للصناعة الروسية في ظلّ نظام العَولمة، على الرغم من أنّ الصناعة الروسية لا تُغطّي مختلف القطاعات، لكنّها تبقى كافية للإحتفاظ بالقدرة على المنافسة.

ثالثاً: صحيح أنّ العقوبات الإقتصادية الغربيّة المفروضة على روسيا، ألحقت أضراراً عميقة بالوضعين المالي والإقتصادي في روسيا، لكن الأصحّ أنّ هذه العقوبات زادت الوضع الإقتصادي المُنكمش في أوروبا منذ نحو سنتين، سوءاً. وبعد أن كانت ألمانيا مثلاً في منأى عن التراجع والإنكماش العام في أوروبا، صارت في طليعة المُتضرّرين إقتصادياً، نتيجة إرتدادات العقوبات على روسيا. وهنا لا بد من التذكير أنّ التبادل التجاري بين روسيا ومحيطها الأوروبي كبير، بعكس ما هو الوضع بين روسيا وأميركا، ما سيدفع الأوروبيّين قريباً إلى رفض المشاركة بفرض العقوبات الأميركيّة.

رابعاً: إنّ الرئيس الروسي يُسيطر على القطاع الإعلامي في روسيا، وهو يلعب حالياً لعبة "لوم أميركا والغرب" على ما يحدث من أزمات إقتصاديّة ضاغطة على الشعب الروسي، وهو قادر على الإستمرار بأداء دور الضحيّة، واللعب على وتر وطنيّة الشعب الروسي لتحمّل صعوبات المرحلة الحالية، وكأنّها ضريبة قوميّة دفاعاً عن الكرامة. كما أنّ الرئيس بوتين محبوب في صفوف الجيش بعكس ما يتمّ ترويجه في بعض وسائل الإعلام الغربيّة عن خطر تعرّضه لانقلاب عسكري نتيجة الأزمة الإقتصادية-المالية الحالية. وهو يُشكّل مع عدد من الحلفاء الداخليّين "كارتيلاً" بمصالح إقتصادية مترابطة.

خامساً: إنّ حدّة الإصطفافات الدَوليّة، ولعبة المصالح والأقطاب، دفعت الصين إلى مدّ يد العون المالي إلى روسيا، وهو أمر ممكن أن يتكرّر من قبل الصين أو غيرها ممن يربطهم تحالف غير مباشر بروسيا، حتى لو أنّ الأثمان مقابل ذلك غير معروفة علناً.

في المقابل، وبالنسبة إلى المحلّلين الذين لا يستبعدون أن يُعيد التاريخ نفسه، وبالتالي أن يسقط الإتحاد الروسي أرضاً تحت وطأة الضغوط الإقتصاديّة، فهم ينطلقون بدورهم من الوقائع التالية:

أوّلاً: إنّ نصف الميزانيّة في روسيا مبني على عائدات عمليّات تصدير النفط والغاز الطبيعي، ومن مختلف الضرائب والرسوم المفروضة على العمليّات التجاريّة المرتبطة بذلك، ما يعني حُكماً أنّه في ظلّ إستمرار التراجع العالمي لأسعار النفط، فإنّ الإقتصاد الروسي سيواصل غرقه التدريجي، مع العلم أنّ روسيا هي ثاني مُصدّر للنفط على المستوى العالمي بعد السعودية.

ثانياً: المصرف المركزي الروسي قام بمحاولة فاشلة لوقف الإنهيار المتواصل لسعر صرف العملة الوطنيّة "روبل"، عبر رفع الفوائد المصرفيّة من 10,5 إلى 17 %، بهدف تشجيع المُودعين على عدم شراء عملات أجنبيّة، في تكرار للخطوة التي قامت بها روسيا خلال أزمة العام 1998 في عهد الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين، لكنها لم تُفلح في إعادة الثقة، ولا في وقف إنهيار قيمة العملة الروسية المستمر منذ مطلع العام 2014.

ثالثاً: الوضع الإقتصادي السيّء في روسيا حالياً غير محصور بتراجع أسعار النفط، ولا بتراجع قيمة الروبل، بل يَعُود إلى العديد من المسائل الأخرى، منها على سبيل المثال لا الحصر، إستمرار التضخّم منذ مدّة، وسوء نظام التقاعد، وإستفحال الفساد في الإدارة الرسمية، وتفاعل وطأة العقوبات الأميركية-الأوروبيّة المفروضة على روسيا نتيجة موقفها من الأزمة في أوكرانيا، إلخ.

رابعاً: مُشكلة النظام الروسي الإقتصاديّة الحالية مُرتبطة بشكل أساسي بتدهور أسعار النفط، الأمر الذي يزيد الأمور تعقيداً، لأنّ الحلّ لم يعد محصوراً بإيجاد تفاهم مع أميركا وأوروبا بشأن ملفّ أوكرانيا، بل أيضاً مع السعوديّة بشأن الملفّ السوري، باعتبار أنّ الرياض لعبت دوراً رئيساً في عدم موافقة منظّمة "أوبك" على خفض حجم إنتاجها للنفط، ما أدّى إلى إستمرار إنهيار الأسعار.

خامساً: إنّ حجم الدين الإجمالي للشركات الروسية لأطراف خارجيّة هو بحدود 500 مليار دولار أميركي، منها أكثر من مئة مليار دولار من المُستحقات الواجب تسديدها في العام 2015، وهذا لن يكون ممكناً في ظل الأزمة الراهنة، الأمر الذي سيؤدّي حُكماً إلى إنهيار العديد من الشركات الروسية، وحصول أزمة إجتماعية كُبرى في البلاد.

في الخلاصة، الأكيد أنّ روسيا الإتحادية تمرّ حالياً بإحدى أصعب المراحل الضاغطة في تاريخها. وهي دولة عظمى قادرة على الصمود والمناورة لفترة لا بأس بها، خاصة وأنّها مدعومة من بعض الدول التي تتقاسم معها مصالح السيطرة الدولية، ولأنّ موسكو بارعة أيضاً في لعبة عضّ الأصابع، وفي مسألة إستمالة الشعب الروسي تحت عناوين وطنيّة وقوميّة... لكن كلّ ذلك لن يحميها من خطر السقوط والإنهيار الكبير على المدى المتوسّط، في حال بقيت الأمور على ما هي عليه حالياً لأشهر عدّة متتالية.