لا ترشدك الأفكارالقديمة في العروبة إبداً إلاّ للخلافات والإخفاقات والحروب نزولاً نحو السدود التي أنهار أعظمها تحت أسنان الفئران في اليمن المربك اليوم بالإنهيارات. شدّوا أحزمتكم نحن في اليمن اليوم ومن وراء هذا السد تدفّقنا.

منذ ما يتجاوز العقدين، لم أتمكّن في صنعاء من التفريق بين فندق متعدّد النجوم وسفارة عظمى مطرّز علمها بالنجوم ولا من التمييز بينهما وبين أيّ ثكنة عسكرية متأهبة لهجوم وشيك للإسلاميين. وإذ سألت عن العدو، قالوا: القاعدة تحت الشبابيك وخلف الأسوارالمحصّنة واستحال عندي بالشكل أحياناً، التمييز بين من هو قاعدة أو لا. كانت القاعدة الطافية في ذهني أن أزور سدّ مأرب رحم العروبة الأوّل حيث صفعتني بقايا حجارةٍ هناك من خلفها قالوا ونقشوا أن القبائل والألسن والحضارات تدفّقت فعبرت نحو بلاد الشام المشتّتة اليوم أيضاً في برك الدماء . كارثة أن يكون دوران الحبر العربي حول الإسلام وفيه قادنا الى هذه السدود الكثيرة والدماء الغزيرة والأراضي الرطبة التي تتلقّف بعطش ملحوظ حبوب التشظّيات الدينية والمذهبية النائمة.

لم ترشدني تلك النقوش العربيّة القديمة الى قاريء جديد يعني جديده أنّه لم يضف الى قراءة القديم شيئاً. كان المحصول منذ مأرب حتى اليوم عيوناً قديمة وواقعاً قديماً يكمن جديده في جدّته وعبسته فينا، وهو لا يتجدّد إلاّ بنسبه الى قديم أصلب، صعب الإدراك إلاّ بالخوف والتوارد وتعقّب أوهام الصور المضخّمة والأفكار الكبرى التي طبعت أخيلتنا. نعم. العالم أضيف الى مواردنا. وبقي المضاف إلينا في لساننا وحضورنا متقدّماً على المضاف ولو كان هذا المضاف أو الضيف يختصر تجارب البشرية. وبقيت كان من أخوات أصبح ناقصة كثيرة الإستعمال حتّى ولو سبقت أفعال المستقبل أفعال الماضي، والأمثلة هائلة في المجال. أمّا المتغيّرات التي تزخر بها مدننا فهي شكليّة لو قشّرناها لوجدنا الدنيا كما كانت. تستمرّ صورة مأرب الهويّة المتكرّرة أوهامها في قفزنا الرتيب القائم فوق تحوّلات الأزمنة والأمكنة والحضارات.

ماذا يعني بعد أنّك عربي تنقّب في الوعر العربي والإسلامي الدامي وحدك من دون غيرك؟ ما الإثبات الجديد؟ الجنس والدم أم المولد والنشأة والمواطنة ونسق القيم الدينية المهدورة؟ من نحن ومن هم وما هي السدود بينهما؟ هل هناك بعد حلم بشعب عربي واحد أم بشعوب وقبائل تتناحر بالعربية وتناحر الدنيا متشاوفة بطيب السيوف؟ تتخاطب فلا تتفاهم دائماً وكأنّ لغتها الأم التي تتجاوز اللغات كلّها ولشدّة غناها وإشتقاقاتها باتت ترمينا بإستعادة تجربة بابل التي نصب أهلوها قبلنا سلّماً نحو السماء؟ إرتفع السلّم الحجري المشقوع إستيضاحاً وتطاولاً وبحثاً صبيانياً في الحقائق فهوت الرؤوس عن الأجساد واندثر اللسان كما الرياضيات الحديثة الى ما لانهاية؟ من هم هؤلاء "المسلمون" الذين يحملون السيوف وأجسادهم المفخّخة ويدورون في أرجاء المعمورة بأعلام الله السوداء؟

أهي العربيّة لغة الجسد العربي والأم العربيّة والماضي والمستقبل العربي بأبعادها العضوية والنفسية والإجتماعية والحضارية؟ أيمكننا بعد إعتبار العروبة والوحدة العربيّة والقومية أكثر من كلماتٍ محشوّةً بالأحلام والقصائد الجميلة؟ عمّ كانت تبحث معظم النصوص والنظريات والأفكار الأصيلة والمستوردة والمقتبسة والمترجمة أو المعرّبة عن تجارب الأمم والتجارب التأجيلية التي دفنت العروبة وتهشّم صور الإسلام وما فيهما وحولهما ؟

تخجل النصوص في لملمة العروبة المتحلّلة بين الأصابع في قراءات جديدة. فقد دارت كلمة عربي كثيراً في ألسنة أهلها ورجحت كفّة إستعمالها بالإتّكاء على ملوحة الجرح الفلسطيني حيث العروبة المستحيلة والإسلام المتحيّر بسلطاته البعيدة الجذور وخصوصاً في بلاد الشام. يقصد اللبناني بالعروبة عشرات المعاني تبدأ بالوجه أو باللسان ولا تصل الى العقل أو الموقف بل الى الثروات. في العربية تمايز عن الفارسية والأعجمية والتركية ويستعملها الإيرانيون واليهود والأتراك والكثير من دول أوروبا والغرب فيخلطون بينها وبين الإسلام بنسبٍ غير مستقرّة وبعيون مزدرية لأهلها. يغالي الجزائريون والتونسيون وأفريقيا الشمالية بها صفةً إسلامية مناهضة للغرب الفرنسي الذي سحب من ألسنتهم شرايين النطق بلغة الأم مأرب، ويستعملها الخليجيون بصفاتها وحلّلها الإسلامية الشاملة بينما يستعملها المصريون رموزاً تنفتح ربّما لكنوز الإرث الأوّل في كتابة الفرعونية وأيضاً لعروبة مصرية لمعت وتتجدّد في شطط الإخوان المسلمين وفصائل التكفيريين والإرهابيين منهم تمييزاً عمّا يعرف بمسلمي الغرب الذين عادوا يختلطون بمنابعهم ويدفعون إليها. وقد تستعملها بعض دول العرب في القارة الإفريقية كالصومال بحثاً عن فكّ عزلة البلد المسلم غير العربي وسط عالم أفريقي معاد.

قرون من التفكير والتأمل والتلاقي والتحاور والتقارب تنتظرنا مجدداً. هي قراءات قديمة عبرناها لم تستقر. تلبس ثياب الجديد الذي لن يستقر لأنّ جروح العرب والمسلمين العرب تتنقّل كما العصفور الجريح من بلدٍ عربي لآخر. حان زمن قطع عنق الإنتظار والموقف، في غفلةٍ عن قاطعي الأعناق من متطرّفي المسلمين وتكفيرييهم وإخوانياتهم، وسماع أنين النصوص والأجيال الطامحة الى الإستقرار والسلام في أرض العرب والمسلمين خشية أن نسقط مجدّداً في وعر الصعوبة أو في المستحيلات الغريبة. لماذا؟ لأنّ الغريب الذي لا دين له يتحرّك في ركام التاريخ مسقطاً أفكار التشدّد: كان وأصبح وما زال بعض المتأسلمين المتشددين و"المتمغربين" يتّهمون العرب من غير المسلمين أو غيرهم بغربيتهم فيغرقونهم بالخوف ويدفعونهم نحو التعصّب والهجرة أو القتال، وبالمقابل كان وما زال وأصبح البعض من غير المسلمين المتشددين و"الديمقراطيون" يطالبون المسلمين بالخروج من سحنهم حتى يتمكّنوا من الفكرة القومية العربية والأفكار الثورية التي انهارت في بلاد المنشأ، فيدفعونهم مجدداً الى التعصب والقتال والتهجير؟ أخفقت المنظّمات والروابط والأحلاف الإسلامية الواسعة ولم تضف سوى المزيد من اليباس الذي أصاب شجرة جامعة الوحدة والدول العربيّة منذ زمن بعيد. لن تكون العروبة تاجاً على رأس المسيحي أو المسلم المعتدل حيناً وسيفاً يجزّ رأسه حيناً آخر ولن يخرج الغرب أصابعه من هذا الميدان النفطي والديني حيث تشابك المذاهب والأديان.

نتلفّظ بالغرب اليوم، فأيّ غرب نقصد؟ أهو الغرب المسيحي الأوروبي الكاثوليكي مع أنّ المسيحية تذوي في شيخوخة أوروبا وهي تسيقظ مجدداً كردّة فعلٍ على تحدّيات مسلمي الغرب والشرق، أم هو الغرب البروتستانتي الأميركي برؤسائه وشركاته العابرة للقارّات ولسلطات الدول والمافيات والإرهابيون الدوليون وصهيونيته؟ بلغنا التيه والهبل والتشوّه في ترددنا بين مآزق الإنتاج ومدّ الإستهلاك أي فتح الأسواق والكنوز لبيعنا السلاح كما الصابون ومعجون الأسنان.