سنوات مرّت منذ حرب تموز عام 2006 تدرّجت فيها إسرائيل بإنتهاك سيادة لبنان وخرق القرار الدولي 1701. أساساً لم يلتزم الإسرائيليون بتطبيق القرار الدولي الذي أوقف الاعمال العسكرية ولم يثبّت وقف اطلاق النار. لم تتوقف طائرات الاستطلاع الاسرائيلية وأحيانا الطائرات الحربية عن انتهاك الأجواء اللبنانية. زرعت أجهزة تنصّت وعبوات وفجّرتها، وقتلت مقاومين من "حزب الله"، خرقت الحدود البرية عند الخط الأزرق. لم تعر أيّ اهتمام لمسألة مزارع شبعا اللبنانية التي بقيت محتلة.

لم تكتف تل أبيب هنا. وظّفت المجموعات المسلحة في سوريا لتنفيذ أجندة تخدم اسرائيل اولاً. استرجعت تجربة لبنان الحدودية أيام وجود "جيش لبنان الجنوبي". دعم الإسرائيليون "جبهة النصرة" التي امتدت من درعا إلى الجولان. كلما كان الجيش السوري يتقدم للحسم كان الطيران الاسرائيلي أو المدفعية يتدخلون دعمًا للمسلحين في سوريا. بدا أنّ الخطة الاسرائيلية تقضي بأن يمتد شريط المنطقة الحدودية الجنوبية السورية تحت سيطرة "النصرة" على مساحة 1500 كلم ويصل إلى شبعا في لبنان.

هذا يشكل عاملا من عوامل ضرب قواعد الاشتباك. من هنا جاء قرار "حزب الله" بإستطلاع منطقة الجولان والتحضير لضرب مشروع "النصرة" ومنعه من ايجاد منطقة "الجدار الطيب" تحت أمرة اسرائيل. الاستطلاع الذي كان يقوم به موفدو المقاومة إلى القنيطرة تم استهدافه من قبل الطائرات الاسرائيلية. هذا خرقٌ جديدٌ وخطير لقواعد الاشتباك، وأتى بعد تحذير مباشر من الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله. كلّ ذلك فرض الردّ من جانب المقاومة.

جرت دراسة العملية من كل جوانبها. كان خيار مزارع شبعا مقصوداً، بإعتباره لا يخرق القرار 1701. جرى التنفيذ بنجاح في أرض لبنانية محتلة. ردّ الإسرائيليون بقذائف عشوائية فورًا وأصابوا جنودًا إسبان في اليونفيل ما أدّى إلى قتل أحدهم. تدخلت قيادة اليونيفيل لمنع التدهور. على الفور أبلغت تل أبيب قوات الطوارئ الدولية انها لا تريد التأزيم: "إذا لم يحصل تصعيد من قبل الطرف الثاني، فلن نصعّد". أخبرت قيادة اليونيفيل مخابرات الجنوب في الجيش اللبناني ذلك، فأطلع فوراً قائد فرع مخابرات الجنوب العميد علي شحرور رئيسي مجلس النواب والحكومة نبيه بري وتمام سلام على ما أبلغته اسرائيل لقوات اليونيفيل. في هذا الوقت سُجلت اتصالات على خط عوكر- السراي الحكومي و عوكر- واشنطن، وبطبيعة الحال بين الأميركيين والإسرائيليين. كان قرار الادارة الاميركية واضحا أيضاً : "ممنوع التصعيد ويجب هضم ما جرى".

أبلغت تل أبيب قيادة اليونيفيل في جنوب لبنان أنها تحتاج لفترة زمنية تمتد من 15 إلى 20 دقيقة لإيصال الامر إلى كلّ المراكز العسكرية في الشمال لوقف اطلاق النار والعودة إلى الأوضاع الطبيعية. هذا ما حصل فعلا.

لكن لماذا رضخ رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتانياهو وسكت؟

يقول مطلعون أنّ الاسباب انتخابية عند نتانياهو، إضافة إلى الارباك الذي حلّ نتيجة عنصر المفاجأة والصدمة. لم يستوعب الإسرائيليون ما حصل بداية. أصيبت اسرائيل بإرتباك وشلل لبعض الوقت. كانت قواتها في عز الجهوزية والاستنفار على حدودها الشمالية، رغم ذلك نجحت المقاومة في اختراق كل الخطوط وتنفيذ عملية نظيفة بنجاح.

أولى الإشارات الاسرائيلية: إنّ من يستطيع الهجوم على موكب مزارع شبعا و يجهز صواريخ و جبهات هو مستعد للذهاب بالحرب حتى النهاية. لا تتحمل اسرائيل الآن أزمة ميدانية جديدة ليست في زمانها وشروطها ووضعها. أساسًا هناك من ينوب عن اسرائيل في المواجهة مع المقاومة وهي المجموعات المتطرفة، ما يعني أنّ لا حاجة للحرب المباشرة.

لكنّ خطاب السيد نصرالله فرض إعادة الحسابات في تل أبيب. تغيير قواعد الاشتباك يضع الإسرائيليين في وضع محرج. لم تعد مخططات الإسرائيليين تمضي قدمًا. صارت الجبهة مترابطة تتصل فيها الساحات بالساحات بحيث لا تكون جبهة الجولان آمنة ولا "جدارا طيباً".

بالأساس يواجه الإسرائيليون مشكلة مع دروز 1948. فالموحدون تعاطفوا مع أنسبائهم في السويداء من جهة و عرنة في جبل الشيخ ومحيطها من جهة ثانية ضد المسلحين المتطرفين. أبلغوا الإسرائيليين أنّهم لن يقفوا يتفرجون على وجود "جبهة النصرة" تتمدد جنوب سوريا. هذا الواقع يشكل بيئة حاضنة لأي مقاومة سورية جولانية أصبحت قائمة رغم أنّ قرار إنشائها ووجودها يعود الى عام 2006. يبدو أنّ الحدود الجنوبية لن تشهد بعد اليوم استقرارًا كان يعم منذ أربعين عامًا في القنيطرة السورية. من هنا جاء الحديث عن عدم القبول بتفكيك الساحات وعدم الاعتراف بقواعد الاشتباك. فهل تنضمّ المقاومة الفلسطينية لدعم مقاومة الجولان وتغير حساباتها من الازمة السورية؟ الأهم هل تتحمل اسرائيل فتح أكثر من جبهة ضدها بعدما ثبتت جبهة غزة وحدها فشل تل أبيب بأي إنجاز؟ تغيير قواعد الاشتباك يضع اسرائيل تحت النار من كل اتجاه. هذا ما لا تتحمّله تل أبيب ويقودها إلى التعب العسكري والسياسي والاقتصادي في زمن صعب لم تعد فيه واشنطن تدعم اسرائيل على العميان.