تتضح الحاجة أكثر فأكثر إلى البحث الفقهي الاجتهادي لمواجهة التحديات التي يواجهها المسلمون في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية. ومن بين الموضوعات التي ينبغي بحثها، هي الآثار التي بقيت من عهود قديمة، والتي يحتوي بعضها على تماثيل ومجسمات صخرية ونحاسية بأحجام متنوعة. فما هو القانون والضابطة للتعامل معها إسلامياً، أبالهدم، أم بالحفظ والصون؟. في تصوري أنّ فهم ملاكات الأحكام الشرعية وكشف مناطاتها هو السبيل أن لا تكون الأحكام تابعة لتصورات خاصة أو مستندة للميل النفسي، وكشف سيرة العقلاء هو أحد الأسس الجديرة بالانتباه للوصول إلى نتائج تحترم عقل الإنسان وتطلعاته الحضارية. كما أنّ ملاحظة عنصري الزمن والمكان يساعدنا على تقييم منطقي لأي قضية من القضايا. فما حصل من تدمير محتويات متحف الفن الإسلامي في القاهرة عام 2014 وإحراق أكثر من ثمانية آلاف مخطوطة في مكتبة الموصل وتدمير مقتنيات المتحف بصورة فظيعة مؤخراً، يفتح باب الخلاف النظري حول موضوعة الآثار وكيف يمكن مقاربتها. لا شك أنّ من قام بالهدم على وجه الخصوص انطلق من حرمة عبادة الأصنام وكذلك مِنْ فِعْل الرسول الكريم عندما حطم أصنام المشركين داعياً كل الناس إلى التوحيد. لكن السؤال ينطلق من الاعتبارات والمعايير التي دفعت الرسول إلى ممارسة فعل الهدم ومدى تطابقها مع ممارسات الدواعش؟ فهل العلة في الحكم واحدة؟ وهل الإسقاط صحيح بمعنى أنّ الحكمة من الفعل قديماً وحديثاً واحدة؟ لا شك أن الإشكال منطلق من قياس الفعل الحديث بالفعل القديم مفرغاً من ظرفه التاريخي الذي يحمل مواصفات مختلفة كلياً. فلا التماثيل هي الأصنام القديمة، ولا المجسمات تعبد من دون الله، ولا المتاحف هي أماكن للشرك. وعلى كل حال يبدو أن الجماعات التكفيرية لا تحتاج إلى العقل والفكر والقراءة ويمكن لها سريعاً أن تنتزع أحكاماً تتبنى رأياً غريباً أو تحتوي على مغالطات ونتائج فاسدة. غير أنّ المؤسسات الدينية والمجاميع العلمية في قم والنجف والأزهر والزيتونة يجب أن تأخذ هذه التحولات بمحمل الجد. إذ لن يقف التشويه عند تدمير المتاحف وحرق المكتبات بل سيطاول كل بديهية في حياة الإنسان.

يُفتح ملف جرود عرسال من جديد بعد أن تعاظم القلق من هجوم وشيك للجماعات التكفيرية على منطقة البقاع. المعلومات الصادرة من الجهات الأمنية تشير إلى جاهزية هذه الجماعات، وإلى أعدادها التي تضاعفت، وإلى تقدم آليات التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي.

وهذا ما دفع الجيش اللبناني إلى اتخاذ إجراءات احترازية وضربات استباقية تحسباً لمخاطر أعظم. لكن يجب التأكيد مرة بعد أخرى على مسؤولية كل اللبنانيين في الدفاع عن بلدهم، ودعم الجيش بكل الوسائل المتاحة، فسيطرة الإرهابيين وتمددهم إلى قرى البقاع سيسبب كارثة كبرى على الوطن بأسره. فهؤلاء المجرمون لن يتورعوا عن ارتكاب المجازر بحق المسيحيين والمسلمين، وستدمر الكنائس والمساجد على حد سواء. كما رأينا ذلك في الموصل والحسكة والرقة، ولن تسلم من أياديهم الآثار التاريخية كما حصل في الموصل.

هؤلاء الذين يتواجدون اليوم خلف الجبال لا يفقهون من الدين إلا الغزو والسيطرة وقتل المخالفين وهدم الكنوز التاريخية والثقافية بحجة أنها ليست من تراث الإسلام. ولا مشاعرهم مشاعر إنسانية بحيث يمكن أن يحترموا النفس البريئة التي حرم الله قتلها، ولا عقولهم تهضم الثقافة والفكر والحداثة ولغة الحياة الجديدة، ولذلك يلجأون إلى هذه الممارسات التي ذكرتنا بالتتار والمغول والصهاينة والأميركان عندما كانوا يدخلون على المدن فيحرقون المكتبات ويقتلون العلماء والفقهاء. لذلك تتوجه المسؤولية إلى كل فرد منا للدفاع عن الوطن وحرماته وتراثه حتى لا يصيبنا ما أصاب غيرنا من دمار وخراب.