أراد الإرهابيون أن يخطفوا لبنان انطلاقا من عرسال وجرودها، التي شاءوا تحويلها مع ما خطفوه من عسكريين جرحا نازفا يصعب أقفاله في ظل الظروف الراهنة داخليا وإقليميا، ساعدهم في ذلك مواقف داخلية لبنانية معطوفة على ما تتلقى من إملاءات خارجية تحرص على إبقاء هذا الجرح ليس لاستنزاف الجيش فقط بل ومن اجل التهيئة لعمل ما في الداخل اللبناني قد يشكل تعويضا في لحظة معينة عن الانهيارات التي تلحق بالإرهابيين في الميدان السوري.

و تفاقم الوضع في الأسابيع الأخيرة مع التسريبات و التحليلات التي قادت إلى اكشف خطة يعدها الإرهابيون المنتشرون في جرود عرسال و المتصلين بأقرانهم في جرود القلمون خارج أماكنها الآهلة التي سدها بوجههم الجيش العربي السوري و القوات الحليفة ، خطة يبدو انه يراد منها التوسع داخل للبنان بضم راس بعلبك و القاع إلى مناطق سيطرتهم في عرسال و جرودها ، و الاندفاع غربا باتجاه دير الأحمر و شليفا غربا في مرحلة ثانية في عملية تؤدي إلى عزل البقاع الشمالي عن لبنان ما يمكنهم من رفع مستوى الابتزاز الذي يمارسونه اليوم عبر احتفاظهم بالعسكريين المخطوفين منذ نيف و سبعة اشهر . وكان من المتوقع أن ينطلق الإرهابيون للتنفيذ مع أواخر أذار الحالي عندما تصبح الظروف الجوية والطبيعية أكثر ملاءمة لتحركهم الهجومي.

في مواجهة هذه الفرضية أو الاحتمال بادر الجيش اللبناني إلى القيام بعملية عسكرية استباقية نفذها في جرود راس بعلبك عرسال وعلى تلة جرش ومحيطها تحديدا، عملية شكل تنفيذها تطورا نوعيا لأداء الجيش في المنطقة لا بل يعتبر تغيرا جذريا لما اعتمده الجيش منذ انتشاره في المنطقة قبل نيف وسنتين.

لقد أدى القرار السياسي اللبناني في السابق إلى تكبيل الجيش بما يتنافى مع المنطق والأصول التي يفرضها الميدان، وأدى ذلك كما يعرف الجميع إلى وضع الجيش في وضع المتلقي والمنتظر دون أن يكون بمقدوره الرد أو فرض معادلة الردع الميداني التي تحصنه وتحمي جنوده، وهذا امر لا يمكن أن يتناساه أحد ولا يمكن أن يغفر للسياسيين الذي استجابوا لإملاءات خارجية وتسببوا في وضع الجيش في الوضع الذي ذكرنا.

أما اليوم ونقيضا لما كان قائما، فيبدو أن قيادة الجيش ومستفيدة من تحوت إقليمية فرضت تحول في المواقف السياسية الداخلية، ودرءا لمخاطر باتت أكيدة تحدق بشكل مباشر ببلدتين لبنانيتين وقابلة للتطور لتشمل منطقة بكاملها تكاد تشكل ما يزيد عن نصف محافظة بعلبك، في مواجهة ذلك قامت بهذه العملية الاستباقية التي أدت إلى نتائج ميدانية مهمة، ذات مفاعيل استراتيجية لا يمكن تجاوزها.

فقد مكنت عملية تلة جرش الجيش من التمركز على مرتفع يتحكم بقطاع واسع من الشمال إلى الجنوب مرورا بالاتجاه الشرقي وعلى مروحة تصل إلى 230 درجة ما ضع طرق تسلل أو تحرك المسلحين تحت المراقبة الدائمة للجيش وضمن حقل رمي واسع مأمون التعهد بالمدفعية المراقبة، وجعل الجيش المتمركز في التلة بمثابة مركز إنذار متقدم يصعب الوصول اليه واقتحامه كما حصل مع مراكز الجيش في الصيف الماضي. الأمر الذي منح الجيش مكتسبات دفاعية عالية المستوى وقلل من مخاطر تمركزه في الجرود وحرم الإرهابيين من حرية الحركة والقدرة على مهاجمة المواقع المتقدمة،

لقد اثبت الجيش اللبناني في عملية نله جرش احترافا عاليا وقدرة على اتخاذ القرار الميداني المناسب في الوقت المناسب، ومع هذا النجاح نعود إلى السؤال الأساس هل أن مخاطر الأشهر المقبلة تراجعت وهل أن خطة الإرهابيين ضد لبنان أجهضت؟

من البديهي ومن اجل الإجابة ألا نحمل الأمور أكثر مما تحتمل في ذاتها، كما انه من الضروري أن نعود إلى حال الإرهابيين والمسالك لمفتوحة أمامهم في الأسابيع القادمة. حيث أن تفحصا للحالة يظهر بأنهم في سورية عامة وفي القلمون خاصة في حال تراجع مستمر، ومن يريد أن يعرف أكثر عليه أن يتابع ما يجري في الجبهة الجنوبية في الأرياف السورية الثلاثة (دمشق – درعا والقنيطرة) حيث أجهض الجيش العربي السوري والقوات الحليفة بعملياته الاستباقية هناك والتي بدأت مرحلتها الأولى منذ 3 أسابيع واستؤنفت مرحلتها الثانية في الأسبوع الماضي وحققت نجاحات باهرة منذ الساعات الأولى لانطلاقتها، أجهض بذلك خطة الخرق الإرهابي باتجاه دمشق بدعم أردني إسرائيلي مباشر.

و لإغناء الفكرة اكثر نذكر بان الجيش العربي السوري و القوات الحليفة العاملة في القلمون على المقلب الشرقي للسلسلة الشرقية حرم الإرهابيين من أي ملجأ داخل الأماكن الآهلة فلجأوا إلى الكهوف و الأودية ينتظرون اللحظة المناسبة للأنقاض شرقا على البلدات السورية و غربا على البلدات اللبنانية , و بما أن الوضع الميدان العسكري شرقا في غير صالحهم وبات يشكل حالة يأس و إحباط لديهم فانهم سيجدون انفسهم أمام خيارين أما التحرك قتاليا باتجاه الغرب – أي لبنان - أو الخروج من الميدان لانهم لن يستطيعوا الاستمرار في ما هم عليهم الأن .

ولذلك فان خطر العدوان الإرهابي على لبنان لا زال قائما رغم الجهد المشكور الذي قام به الجيش مؤخرا، جهد أدت نتائجه بدون شك إلى تعقيد عمل الإرهابيين ورفع درجات الصعوبة في تحقيق أي إنجاز ميداني لكن ذلك لا يعني الاسترخاء والاتكال على ما حصل وطي صفحة خطر العدوان على لبنان الصفحة التي تبقى مفتوحة لدى الإرهابيين طالما أن لديهم امل ما بالنجاح ولهذا يحتفظون بورقة العسكريين المخطوفين ويصرون على عدم إقفال الملف باي طريقة من الطرق قبل تنفيذ عمليتهم تلك.

فالخطر الإرهابي لا زال محدقا بلبنان و بدرجة لا تقل عن أي وقت مضى بل تزيد عن الماضي نظرا لظروف الإرهابيين ، و رغم أن الجيش اللبناني قدم عينة مضيئة مما يستطيع القيام به ، فان هذا لا يعني إجهاض الخطر بل أن هذه العينة يجب أن تدفع الجميع لدعم الجيش في مهمته الوطنية الوجودية و أن يؤمن له كل ما يمنحه القوة بوجهيها المعنوية و المادية حتى تكون مواجهته للإرهاب اكثر يسرا و اعلى درجة في احتمالات النجاح و اقل كلفة عليه و على أفراده ، تماما كما حصل في عملية تلة جرش التي تكاد توصف بالعملية النظيفة التي لا خسائر تذكر فيها . وعندما نقول بوجوب توفير مصادر القوة للجيش فإننا نعني وبشكل مؤكد:

1) قرار سياسي وطني صريح جامع، بإطلاق يد الجيش لحماية الوطن وفرض تطبيق القانون على كل منطقة دخلها الإرهاب واستنقاذها من يد الجماعات المسلحة الإرهابية. وهذا القرار على الحكومة أن تتخذه وهي حكومة تتمثل فيها المكونات السياسية اللبنانية كما يحبذ الحصول أيضا على دعم القوى السياسية الأخرى غير الممثلة في الحكومة صغر حجمها أم كبر.

2) الاستحصال على دعم دولي لتنفيذ هذا القرار، وهو دعم ينبغي أن يكون الاستحصال عليه غير معقد في ظل الحرب المعلنة على الإرهاب دوليا، واجتماع الأضداد في السياسة الدولية على عنوان محاربة الإرهاب كل في مسار ارتضاه، نقول ذلك رغم تشكيكنا بمواقف البعض من دول العالم من محاربة الإرهاب لأنهم يقولون شيئا ويفعلون شيئا نقيضا وينطبق عليهم المثل "اسمع تفرح جرب تحزن " لكن ومع هذه لا بد من التجربة والمجازفة.

3) تزويد الجيش بالسلاح والذخيرة والمعدات التي ترفع مستوى قدراته القتالية، ولنتذكر أن لدينا جيش محترف يملك المؤهلات القتالية العالية، ويملك إرادة قتال رفيعة المستوى وعلى استعداد أكيد للتضحية في سبيل الوطن، فاذا أعطي احتياجاته فانه قادر على فعل الكثير وتلة جرش نموذجا. وهنا يجب أن تقبل كل هبة غير مشروطة وأن يفتح الباب أمام الجيش لتمويل عملية تسليحه من الخزينة العامة وشراء السلاح من أي سوق يفتح أبوابه أمامه ونحن نعلم أن كثيرا من الدول عرضت التسليح هبة أو بيعا ولكن القرار السياسي اللبناني المرتهن للقرار الغربي حال دون الاستفادة من تلك العروض خاصة الإيرانية والروسية والصينية. ويتمسك البعض بوعود غربية وعربية سعودية نسمع عباراتها ولا نرى أسلحتها.

4) التنسيق مع كل القوى العاملة في الميدان المحيط بعرسال شرقا وغربا أي الجيش العربي السوري والمقاومة والقوى الشعبية، ونؤكد على هذا التنسيق لسبيين عملاني، واستراتيجي، الأول له علاقة مباشرة بتنفيذ المهمة التي لا يمكن أن تنجح إلا بوجوده وإلا وقع الجيش في مواجهة حالة إرهابية زئبقية، والثاني له علاقة بالمفهوم المتطور لفرض الأمن الذي لم يعد أمنا وطنيا حصريا بل توسع ليكون أمنا إقليميا في الحد الأدنى وأمنا دوليا بالمفهوم الواسع،

أن لبنان اليوم أمام تحدي أمنى كبير، فهل يقدم ويواجه بجرأة رغم حجم التضحيات التي قد يدفعها ثمنا له، أم يحجم ويدخل في حالة حرب الاستنزاف التي تقود جيشه أولا إلى نزف دائم، ويحتمل معها بعد ذلك انتقال الإرهاب إلى الداخل اللبناني وتفشي سرطانه في أكثر من منطقة وعندها ينقلب الوضع إلى خطر وجودي فهل هذا ما يشتهي معرقلي خطة دعم الجيش وإطلاق يده لحماية لبنان؟