كان ضروريًّا في الواقع اللبنانيّ أن تتمأسس القمّة الروحيّة المسيحيّة-الإسلاميّة في لبنان، في ظلّ الشحن المتراكم على أرضه، على الرغم من أنّ معظم البيانات الصادرة عنها في محطّات سابقة ظلّت حبرًا على ورق، لم تتخطَّ التمنيّات لتبلغ عمق التجسيد على الأرض اللبنانيّة في دولة المذاهب والطوائف. وتجيء عمليّة المأسسة في ظلّ أوضاع ملتهبة مشدودة بعمقها وجوهرها نحو إقليم متفجر من سوريا إلى اليمن.

ما هو مهمّ في هذا السياق، أن يظهر الأنموذج اللبنانيّ ساطعًا كليّ البهاء في هذا الإقليم على الرغم من الانسداد في الآفاق، والانشداد إلى الأعماق في صراعات وجوديّة عبثيّة تبديها بعض الأطراف السياسيّة خلوًّا من مصالح داخليّة، فيعكسون في الداخل الانفجارات المتنقلة في تلك الأقطار، تمهيدًا لاستلحاق الداخل اللبنانيّ بها. وعلى الرغم من تركيز بيان رؤساء الطوائف في لبنان وممثليهم في مسألة الانتخابات الرئاسيّة، وهم على حقّ، على الرغم من أنها لم تعد جوهر الأزمة بالمطلق، إذ ثمّة ما هو أعمق، وتعطيل الانتخابات جزء مما هو أعمق، في سياق الصراع الكبير، كان ينبغي الإشارة إليه في بيان القمّة. والأعمق أنّ الأزمة الكيانيّة اللبنانيّة أمست متماهية في الخطاب الدينيّ المتشنّج والمتفلّت، حيث يفترض ضبطه بالمنطق الراقي الذي أظهره مفتي الجمهوريّة اللبنانيّة الشيخ ​عبد اللطيف دريان​ وقد ساقه غير مرّة وتبنته القمة الروحيّة، فيصبح لزامًا على الجميع مكافحة هذا المنطق التكفيريّ في حربه على المسيحيين والمسلمين، بمنطق الاعتدال والحزم، وإتمام الاستحقاقات بصورة طبيعيّة وموضوعيّة.

ليس المسرى اللبنانيّ خاليًا من عطب أو مجموعة أعطاب، استبدّت بالكيان في جوهر تكوينه، وهو تكوين طائفيّ بامتياز. غير أن قيمة لبنان، تتجلّى في أننا نملك القدرة على القراءة المشتركة إذا صبونا نحو خيارات واقية. فمن وضع الميثاق الوطنيّ سنة 1943، غير مقصيّ عن الواقع الراهن.

ان انهيار لبنان في حالته ورساليّته ترميد كامل للمنطقة كلّها على الرغم من أنها في عين العاصفة. هذا ما قرأه المجتمعون في القمة الروحيّة في بكركي حين رأوا خطورة الحراك الدامي عند القوى التكفيريّة مطالبين بالتصدّي لظاهرة الإرهاب التي تجتاح المنطقة ومواجهتها ثقافيًّا واقتصاديًّا، والطريقة لتحقيق أهداف المواجهة تقوم على توحيد صفوف الاعتدال وتعزيز مواقعه وتطوير الخطاب الدينيّ الذي يؤكّد المصالحة والتسامح والتعايش ويبتعد عن مصطلحات الإقصاء والإلغاء"... وكان للمفتي دريان وهو أوّل من طالب بعقد القمّة الروحيّة وجاراه فيها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في جذبها نحو التمأسس، أن وقف في المنحى الداخليّ بصورة مباشرة وقال: "ممنوع على تيار المستقبل وحزب الله وقف الحوار". فالحوار يبقى الأساس المرسّخ للاعتدال وديمومته والاستقرار واستمراره. تلك هي الأرضيّة الأولى والتي تقوم بعدم جرّ لبنان إلى التفجّر، على الرغم من أن الحرب على اليمن وكما تظهر معظم الوقائع انفعاليّة خالية من الصفاء الاستراتيجيّ. وهي حماقة حقيقيّة، وفخ نصبه الأميركيون للسعوديين على غرار الفخ الذي نصبته إيبريل غلاسبي لصدام حسين بدخوله الكويت. والقاعدة كما أظهرت المعطيات الأخيرة هي التي تستفيد من الغارات لتحرز بعض التقدّم في العمق اليمنيّ.

استلهامًا لتلك الرؤية، رأى سياسيّ متابع وفهيم، بأنّ ثمّة من يريد تفجير الحوار والاستقرار في لبنان، أي جرّه إلى المدى اليمنيّ. وقد أشار بأن النائب فؤاد السنيورة وقبل كلام الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله هو أوّل من نصب فخًّا للمتحاورين بتشديده في المحكمة الدوليّة في لاهاي على قول منسوب لرئيس الحكومة السابق الشهيد رفيق الحريري بأنّه اكتشف محاولات لاغتياله من "حزب الله". وبعد ذلك جاء كلام لرئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​ اعتبر بأنّ قرار دخول السعوديّة الحرب اليمنيّة حكيم جاراه فيه النائب ​وليد جنبلاط​، وكأنّ ثمّة إرادة بالعودة إلى المربّع الأوّل أي مربّع ما قبل الحوار، ليأتي الردّ من السيد نصرالله واضحًا قاطعًا في هجومه على دخول السعوديّة الحرب في اليمن، من دون المساس بالحوار الداخليّ. ويظهر السياسيّ المتابع، بأنّ كل تلك المواقف الحادّة من قبل الحريري وجنبلاط وقبلهما السنيورة، ليست سوى تنافس على كسب الرضى من النظام الجديد، والتموضع في الصراع في اليمن وعليه وحوله، للانسياب نحو الداخل اللبنانيّ في قيادة الحياة السياسيّة على ظهر جواد سعوديّ أصيل. ويتابع السياسيّ قائلاً: بأنّ هذا الرهان سيعقّد الأزمة اللبنانيّة ويزيدها حماوة وتوتّرًا على الرغم من الإرادة الدوليّة بحفظ الكيان اللبنانيّ في ظلّ هذا الواقع مستقرًّا. والتموضع هذا عند تلك القوى وبانسيابه في الداخل اللبنانيّ له وظيفة واضحة المعالم ألا وهي الاصطفاف في مواجهة الاتفاق الأميركيّ-الإيرانيّ بإرادة سعوديّة وقطريّة وتركيّة اجتمعت على تلك المواجهة في أرض اليمن وسوريا والعراق، بعد أن كانت قد تفرّقت في الصراع على قيادة التيارات التكفيرية وتمويلها. وقد ربط هذا السياسيّ زيارة سعد الحريري لأردوغان ومغزاها ومعناها في ظلّ الصراع، والتي انكشفت في بياناته الأخيرة بما تحمله من مدلولات ومعايير.

ما هو الاستنتاج الممكن قراءته وإظهاره في مشهدين متناقضين، مشهد القمة الروحيّة ومأسستها، ومشهد متنافر يسير بعكس رجاء الروحيين؟

إنّ الكيان اللبنانيّ لا يتأسس بحوار هشّ ومعطوب على الرغم من الإصرار على ضرورته الاستراتيجيّة في حفظ الاستقرار. بل يتأسّس باتفاق اللبنانيين على تحييد لبنان وليس على حياده. تحييد لبنان عن الصراع المذهبيّ الآخذ بالتصاعد والاحتدام، وهو محتوى مستهلك في المنطقة في إطار المواجهة الحادّة والعنيفة بين محورين كبيرين في المنطقة، تستهلك الساحات العربيّة وقودًا لها. وفي المفهوم الواقعيّ أنّ الحياد لا يتأسّس على التحييد، لأنّ مضمونه واحد وهو الصراع العربيّ-الإسرائيليّ، وجوهره القضيّة الفلسطينيّة، وهي هالة مقدّسة وحالة عقيديّة لكلّ اللبنانيين مسلمين ومسيحيين على السواء.

إذا رام اللبنانيون التحييد فهذا لا يعني أننا غير معنيين بالمطلق بما يحصل في الإقليم المتفجّر بآفاقه الاستراتيجيّة الواسعة وتداعياته المتطرّفة في الداخل اللبنانيّ. يتأتّى من ذلك، اتفاق اللبنانيين على إتمام استحقاقاتهم الداخليّة بدءًا من استحقاق رئاسة الجمهوريّة، باتفاق داخليّ يعيد التوازن إلى المدى اللبنانيّ بصيغته التوافقيّة التي امتاز بها الوجود اللبنانيّ في حقبة ما بعد الاستقلال. وهذا حتمًا يتولّد من تنظيم صفوف الاعتدال كما جاء في بيان القمة الروحيّة، ومحاربة التطرف.

إنّ محاربة التطرف بكل معايير الحرب واجب وطني وأخلاقي وروحيّ. لعلّ مأسسة القمة الروحية تكون لبنة من اللبنات التي ترتفع عمارتها شيئًا فشيئًا، فيظلّ الأنموذج اللبنانيّ السراج المتقد لا تحت المكيال بل فوق السياج والمنارة ليبقى مضيئًا في ظلمة الإقليم المتفجّر وومضة رجاء في تراكم الحروب العبثيّة القاتلة.