كلّ شيء، حتى الصورة التذكارية، يشي بأن في الهبة أمرًا غير بريء مظللاً بعنوان: انتصار الجيش على الإرهاب. هي حكاية التوقيت مجددًا. توقيت يفتح الباب على كثير من التساؤلات المرتبطة برسالةٍ سعوديّة واضحة قررت المملكة أن توجّهها الى الشعب اللبناني مفادها: انظروا ما نفعله نحن وما نحصل عليه في المقابل من حزب الله.

عضويًا يبدو الربط بين توقيت تسليم الشحنة الأولى من الأسلحة الفرنسيّة والصراعات المنبرية بين حزب الله وحلفاء المملكة في لبنان على خلفية الملف اليمني، إلا أن تلك “النكائيّة” غير الخفيّة على الكثيرين من المراقبين ليس لها مكانٌ في قاموس الإليزيه المنشغل بملفاتٍ أكثر أهمية، ومتى أتت على الساحة اللبنانية فيغريه أكثر أن ينتهي الشغور “على يدّيته” من الدخول في لعبة الحروب الكلامية والاتهامات المتبادلة إزاء ساحةٍ يمنية لا يعرف عنها الكثير تمامًا كما هو مقتنعٌ بأن لبنان لا يعرف عنها الكثير.

تعالٍ على الجراح

لم يكن متوقعًا أن تستبعد صورة الحضور الرسمي في القاعدة الجوية لمطار بيروت السفير السعودي في لبنان، فالهبة في الأساس سعوديّة والظرف مؤاتٍ لقطف “ثمارٍ” اعتقد اللبنانيون أنها ستبقى في إطار الوعود شأنها شأن الهبات “الهوائيّة” الأخرى. بحنكةٍ لعبتها المملكة، أوعزت الى فرنسا تسريع تسليم دفعةٍ على الحساب في القريب العاجل لا عندما تنطفئ شرارة “الحرب” الكلامية التي لا تخلو من الإهانات لآل سعود ومن لفّ لفّهم، والردود على لسان آل الحريري التي لا تخلو هي الأخرى من الإهانات. كشحمةٍ على فطيرة أتت الدفعة الأولى لتُلبِس المملكة ثوب الحمل الذي نادرًا ما يردّ مباشرةً على “باغضيه” ولكنه يجيّر الردّ الى “ممثليه” في لبنان، وينصرف هو الى تعزيز قدرات الجيش والى تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية. لا يصعب تلمّس تلك المكابرة التي تصطبغ “بتعالٍ على الجراح” في الخطاب السعودي، ولعلّ أبسط العبارات وأكثرها رواجًا والتي قد تستدعي “دمعة” بعض عشّاق “العطاءات والإغداقات السعودية هي تلك التي وردت على لسان عسيري خلال تسلّم الهبة والقائمة على تمسّك واضح بعلاقةٍ متينة بين الحكومتين اللبنانية والسعودية بعيدًا من “مهاتراتٍ إعلامية لا تؤدي الغرض ولا تخدم لبنان وتدعو الى الفتنة”.

يدٌ بيضاء

لا يجرؤ حزب الله على “تلقّف” رسالةٍ مماثلة في الملأ وهو العارف بأن السعودية تحاول حشره في الزاوية من خلال “يدٍ بيضاء” تُضعِف موقف كلّ من سيتناولها بالسوء خصوصًا أنها تضرب على أكثر الأوتار إيلامًا: وتر الجيش اللبناني الذي يحتاج سلاحًا نوعيًا حتى لو كان مصدره “ضرّاب الطبل”. وبالتالي يعرف حزب الله حدوده في هذا المجال فيلتزم الصمت ولا يقارب التسليح من باب الربط بينه وبين ردّ الفعل السعودي على فورة الجمهور الشيعي تجاه التدخّل الخليجي في اليمن، لا سيّما أن الحزب هو أوّل من يدعو الى تمكين الجيش لمواجهة عدوّ الحدود الجنوبية أولاً وعدو الحدود الشمالية ثانيًا. يأبى حزب الله ببساطة إقحام كلّ خطوةٍ تقدم عليها السعودية في معرض السجالات الدائرة بينهما، ولو تمكّن في قرارة نفسه أن يمنع هذا التسليح لما قصّر من باب تلافي “المِنّة” ولكن متى غدا الأمر واقعًا، لا يجد منفذًا للردّ سوى بالمطالبة بأحقيّة قبول أي دعمٍ إيراني شبيه بطريقة شرعيّة أي عبر الحكومة. وإذا كانت العقوبات المفروضة على إيران حالت دون عودة وزير الدفاع سمير مقبل من إيران خلال زيارته الأخيرة مع صفقةٍ تسليحيّة، فإن رفع العقوبات التدريجي متى تمّ توقيع اتفاق نووي نهائي في حلول حزيران المقبل سيسهّل عليه المهمّة وسيُكسِبُه ورقة ردّ ملموسة ومثمرة خارج أطر الوعود التي قد تلفح الدفعة الثانية من المساعدات الفرنسية، حينها فقط تتضح النية الجلية من وراء تسليم دفعةٍ أولى في مثل هذا التوقيت.

الحريري سهّل الجواب

لم يصعّب الرئيس سعد الحريري، عن قصد أو غيره، المهمّة على المحللين، فمنحهم الجواب عن تساؤل الربط على طبقٍ من فضّة بتوجّهه مباشرة الى دارة آل سعود للقاء الملك سلمان من باب “الواجب”... الواجب الذي يفرض عليه أن يشكره شخصيًا، وينقل له بكثير من النَمَق، شكر كلّ الشعب اللبناني... كلّ الشعب ليقينه بأن أحدًا لن يجرؤ على الظهور إعلاميًا ليعبّر عن رفضه تسليح الجيش مثلاً، او لمهاجمة المملكة في هذا الملفّ بالذات. يعلم الحريري في قرارة نفسه جيدًا أن كلّ هبات الأرض لن تحول دون خروج حزب الله مدافعًا عن المنظومة الإيرانية الآخذة في التمدد جيواستراتيجيًا، ومناصرًا شيعة البحرين المظلومين وحوثيي اليمن المنتفضين والقوى الشرعية العراقية والسورية التي تحارب التكفيريين. كثيرة هي الرسائل التي حملتها “ردّة الإجر” الحريريّة، لا سيّما أن رئيس تيار “المستقبل” هو الذي يتولى عبر “تويتر” قيادة حملة الدفاع عمن يعتبر أن تدخّل السعودية بعاصفتها الحازمة في اليمن هو عدوانٌ لا بل مجرد غطاء لغزو برّي.

الفرنسيون يريدون خبزًا

كلّ تلك التحليلات لا تُطعِم الفرنسيين خبزًا حيًا. فهؤلاء يبحثون عن مصالحهم في مكان آخر. قد لا يهمّهم من كل ذلك أن يكون اليمن سعيدًا أو حزينًا، ولا أن يطلّ السيد مهاجمًا والسفير السعودي رادًا والحريري مدافعًا. ففرنسا الخائفة ظاهرًا على الجيش اللبناني وعلى مسيحيي الشرق والاستقرار اللبناني تبحث هي الأخرى، ربما على طريق بعبدا، عن استعادة مكانةٍ راهن الكثيرون على أنها فُقِدت في هذا الشرق، وبالتالي ليس أفضل من لبنان لإنعاش مثل هذا الدور. إنعاشٌ قد يفوق أي محاولةٍ أخرى على بعد كيلومتراتٍ من قبيل تمركز طائراتها من نوع “شارل ديغول” في قواعد خليجية للمشاركة في قصف “داعش” في العراق وسورية. وبالتالي، لا يهمّ فرنسا، لا بل يضنيها ما قد تعتبره “لعب ولاد” لبنانيًا وهي التي كانت مستعدّة لفتح صدر أريافها الجنوبية من أجل استقبال أي مسيحي وافدٍ من الشرق ليعمل في الزراعة فينمّي جنوبها تحت عنوان “حماية الأقليات”. من أجل الجيش أولاً حضر وزير الدفاع الفرنسي جان ايف لودريان احترامًا للاتفاقية التي وقّعها الجانب الفرنسي مع قائد الجيش جان قهوجي، ومن أجل الرئاسة ثانيًا حضر لودريان وقبله مبعوثون كثيرون، من دون أن يكون التوقيت هو العامل المُحرّك حتى لو كان ذلك بغمزةٍ سعودية.

سيناريو مستبعد

يؤكد أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية ورئيس جمعية متخرجي الجامعات الفرنسية وليد عربيد لـ”​صدى البلد​” أن “فرنسا حريصة على تعزيز قدرات الجيش اللبناني بمدّه بأسلحةٍ متطورة هو في أمسّ الحاجة اليها لحماية حدود بلاده، ولكن من الناحية السياسية والإقليمية، يؤكد بعض الخبراء أن دفع هذه العملية الى الواجهة مع ما رافقها من طنطنةٍ إعلامية قد يشي بأنها تحمل ردًا على خطاب السيد حسن نصرالله في ما يخصّ اليمن، وأن وصول دفعة مع رئيس الدفاع الفرنسي قد يحمل رسالة او إشارة الى أن المملكة تدعم الشرعية في لبنان كما في اليمن”. أمستبعدٌ أن تُقحِم فرنسا نفسها في لعبة الردّ السعودي على حزب الله عبرها؟ يتلقف عربيد: “حكمًا هذا السيناريو مستبعد. جلّ ما تنشده السعودية كسب الرأيين العام العربي واللبناني بدعم الشرعية تحت عنوان محاربة “الإرهاب” في اليمن. أما فرنسا فيهمها حتمًا استقرار لبنان وأمنه. قد تكون هناك حساباتٌ جديدة لفرنسا في التعاطي مع الملفات خصوصًا بعد التوقيع على الاتفاق الإطار النووي بين الولايات المتحدة وإيران، وبالتالي الصراع الجوهري اليوم مرتبط بمن سيجلس الى طاولة المفاوضات حول مستقبل الشرق الأوسط. صحيحٌ أن علاقةً جيدة تربط فرنسا بالسعودية، ولكن ما يهم الإليزيه أيضًا تجاه لبنان تعزيز دورها بدعم استقرار لبنان وتقوية الجيش اللبناني”.

ليس فرنسا طعمًا سهلاً

ليست فرنسا طُعمًا سهلاً للصنارة السعودية حتى يُقال أنها تُستخدَم للردّ على حزب الله. كلُّ ما في الأمر أن التوقيت خدم السعودية أما ردّ الحزب فلن يكون في اليمن حتمًا. ربما قد يقول بطريقة غير مباشرة لمن يرغب في معرفة ردّ فعله: انظروا الى القلمون!