خلال عشاء، فوجئ الجميع بصوت هادر وعال. كان صوت جورج سمعان والد الملازم الأوّل الشهيد نديم سمعان الذي قتل على يد الارهابيين التكفيريين في كمين على طريق طرابلس المنية. صرخة جورج سمعان على الرغم من الانفعال السّائد، والذي كوالد شهيد لا يلام عليه، ليست شخصيّة، هي صرخة أمّة تتأوّه من هذه الدمل السرطانيّة المزروعة في الجسد اللبنانيّ، وتحاول خلخلته ومحو نظامه الفريد، بشريعتها العبثيّة الآحاديّة القاتلة. وجع جورج وزوجته وابنتهما، وجع لبنانيّ بامتياز على شهداء يسقطون غدرًا، فيما المستقبل يبقى قاتمًا رهن التسويات، والسؤال المطروح لماذا يُسفَك الدّم، إذا لم يشرف لبنان على صفاء وضياء ينهي حقبة العواصف، ويؤكّد على قول الرحابنة بصوت فيروز: "من بعد العواصف جايي الربيع".

كلّ أمّة لا تنمو وتزهو وتزهر، إذا لم ترتوِ بالدم. التاريخ بني على معموديّة الدم شهادة للحقّ. المسيحيّة ما سطعت لو لم تولد من دم يسوع المسيح، ويسيل دمه بدماء كلّ شهيد سفكت في روما وفي كلّ مكان. كربلاء في الفكر الشيعيّ، استشهاد عليّ بن أبي طالب وصولاً إلى الحسين وشهداء آخرين، كانت رحم ولادة أمّة اغتسلت بالدم وحقّقت الوجود، كما يحصل اليوم سواء بوجه الإسرائيليين أو التكفيريين. هذا الدم مهراق دومًا في الصراع الكونيّ بين الحقّ والباطل، بين الخير والشرّ، في أمم كثيرة، تحدث فيها حروب وقلاقل، تأكيدًا على كلام الإنجيل: "وتقوم أمة على أمّة ومملكة على مملكة".

ونقف أمام أكوام شهداء الأرمن والسريان والمسيحيين الآخرين، وشهداء التجويع خلال حقبة جمال باشا السّفاح في جبل لبنان، وشهداء 6 أيّار الذين علّقوا على المشانق في مثل هذا اليوم فقط لأنّهم أدمنوا الكلمة وجعلوا الحبر السائل على الورق دم القلب والعقل في سبيل قيام وطن حرّ كريم، أو في سبيل الإيمان، ويتمّ طرح السؤال، كيف للضمائر أن تقبل القتل الفرديّ أو الجماعيّ أو الأمميّ، بلا حراك ولا صراخ، ولا بأس أن تذوق الأمم الشهادة حيث اقتضت لأنّ الحقيقة لا تقتل الآخر، بل قتلت وتقتل الجناة والمجرمين قبل أن يقتلوا الأبرياء والمعتدى عليهم بظلمهم ووحشيتهم. قتلتهم وتقتلهم حين أخافتهم وتخيفهم بعرائها الصارخ فحملتهم إلى الإبادة الوحشيّة المطلقة كما مع الأرمن والسريان، أو مع الحكم العثماني للبنان، أو شهداء الأحداث المذهبيّة أو ​شهداء الصحافة​ في السادس من أيّار، لأنّ الاستعمار العثماني أخافه القلم فقرّر تحويل الحبر إلى دم مهراق فعلّق الأجساد على الأعواد ظنًّا منه، أن الموت يطبق على الصوت فتيبس الكلمة ويجفّ الحبر، فما كان منه سوى أن سقط واستمرّت الكلمة سوطًا وصوتًا بوجه كل طاغية مستكبر، أو طبع مستبّد في عالم لا تزال طبائع الاستبداد والتعبير لعبد الرحمن الكواكبي تستهلكه فيستلذّها بعضهم في ممارسة القمع حينًا والقتل أحيانًا. مخيفة هي الكلمة ومرعب الحقّ النابض في جوفها. وتطلّ من تلك الأكوام الراقدة في ليل التاريخ المعاصر علّك تغسل وجهك بفجر جديد يهلّ عليك في الدرب إلى المستقبل، لتتوجّع من جديد بسقوط الشهداء في العراق وسوريا والذين سقطوا قبل ذلك في لبنان، فيشتدّ السؤال في ذهنك ويستبدّ بعقلك وتتراكم عباراته على لسانك، ليس في لحظات النّحيب، بل في انتظار الرجاء، لكون الحياة بلا رجاء سرابًا: هل ستزهر تلك الدماء حلاّ جذريًّا في هذا المدى الملتهب، هل سينتفض الضمير العالميّ لإيقاف تلك المجازر، ويدين من قام بها منذ مجازر الأرمن والسريان وصولاً إلى إبادة المسيحيين في الموصل وسهل نينوى، ومحاولة تهجيرهم واقتلاعهم من سوريا، أو أنّه سيبقى هجينًا دفينًا شبيهًا بضمير بيلاطس البنطيّ يغسل يديه منها متبرّئًا من ثقلها، فيقول قولاً ويبدّل فعلاً؟ ذكرى شهداء السادس من أيّار كما ذكرى شهداء الأرمن تسمح لنا بطرح تلك الأسئلة الوجوديّة، حول المصير والوجود في اصطفاف الرؤى التكوينيّة وتراحمها في ساحة المنطقة. شهداء الحقبة اللبنانيّة وبخاصّة من مرحلة 2004 حتّى 2013، تتطلّب منّا أيضًا طرح الأسئلة عينها. دماؤهم الزكيّة، يجب أن تبقى بمنأى عن المساومات السياسيّة الرّديئة، والاستهلاك السياسيّ المقيت، والذي يقود إلى تسويات رخيصة. الشهداء مقدّسون في ضمائرنا وتاريخنا لأنّهم سقطوا نتيجة الغدر والدفاع عن الذات وقول الحقّ، والأرض تقدّست بشهادتهم، وتباركت بدمائهم، وهم النور المفترض أن نسير بهداه لإعادة الاعتبار لهذا الوطن الذبيح وللدولة المهدورة، وللمكوّنات الموجوعة، وبخلاف ذلك، ستبقى الدماء تصرخ من جوف الأرض، لأنّها تئنّ من عبثيّة الشهادة، في وادي الموت وظلمته، فيما الضمائر ميتة والآذان صمّاء، "لها آذان ولا تسمع، لها أفواه ولا تتكلّم"، وأفضل وصف يعطى لتلك الضمائر بأنّها صنميّة وميتة بكلّ ما للكلمة من معنى.

كلّ تلك الرؤى من شأنها أن تنفجر تدريجيًّا حينما سمع الحاضرون في ذلك العشاء صوت جورج سمعان، وهو صوت من هذه الأرض المعطاء والطيبّة. ما يؤلم في واقع الأمور أن الشهداء يسقطون سواء كانوا من الجيش أو من أهل القلم أو سواهم، ولا نستعيد شيئًا من ألقهم وبهائهم. أليس معيبًا على الدولة أن تتنكّر لدماء شهدائنا في يوم السادس من أيّار. ويوم السادس من أيار، وبحسب التقويم الشرقيّ عند المسيحيين، عيد للقديس جاورجيوس اللابس الظفر، أي ذكرى استشهاده. وتشاء الصدف أن يكون بدوره ذكرى وطنيّة جامعة لشهداء القلم والصحافة، وكثيرون منّا يريدونها ذكرى لجميع شهداء لبنان من دون استثناء مسيحيين ومسلمين. والأغلبيّة من اللبنانيين يتطلّعون ليكون يومًا وطنيًّا لنهضة لبنان وانبعاثه من جوف الرماد. أليس معيبًا أن لا يكون هذا اليوم يومًا وطنيًّا نستذكر فيه شهداؤنا ونفكّر معًا بوحي شهادتهم بطرائق الانبعاث؟

يبقى أن اللبنانيين مشدودون في ذكرى الشهداء إلى رؤية جديدة تقضي على من قتل نديمًا ورفاقه وخطف العسكريين وشرّد المدنيين بالمعنى الكيانيّ للكلام. كثيرون يتغافلون عن تلك الحقيقة، أو يبتعدون عن مرارتها، أو يرفضون محاربتها، أو يلتبسون بحروفها، ويحتجبون بمفرداتها. الرؤية تقضي بألاّ تقف الدولة اللبنانيّة موقف المتفرّج على تغلغل القوى التكفيريّة بخاصّة المعلّبة إقليميًّا ودوليًّا، لا يكفي شجب الإرهاب وهو يهدّد الكيان من كلّ الجوانب المحيطة به. هذا السرطان الضاغط إمّا أن يستأصل من جذوره، أو أنّه في النهاية سيقضي علينا طبقًا للخطّة المرسومة لنا وللمنطقة كلّها. في ذكرى الشهداء، جميعنا مشدودون لهذا القرار الجريء، في ثورة سياسيّة وأمنيّة واحدة، جيش ومقاومة وشعب، مسيحيون ومسلمون مشدودون إلى تلك اللحظة المباركة إذا رام الجميع الصدق والشفافيّة في الحرب على الإرهاب.

صوت جورج سمعان وزوجته، هو صوت عوائل الشهداء، وصوت معظم اللبنانيين. هو صوت موحى به من قلب المعاناة وينزل في جوف العقول والضمائر حتّى تتحرّك باتجاه إنصاف الشهداء بالقضاء على الإرهابيين والإرهاب. وفي ذكرى الشهداء سلام عليهم وعلى شهادتهم، ولنا قول قاله أبو عبد الله حسين بن منصور الحلاج(1): "ركعتان في العشق لا يسوغ الوضوء بعده إلاّ بالدم". الدم تمتمة لهذا العشق المحتدم، هو صوته ومداه في كلّ جيل وجيل، وستبقى تلك الدماء تصرخ وتصرخ، من جوف الأرض وقلب الليل، إلى أن يسطع فجر جديد ناصع بالحقّ، ينثر الضياء فوق تراب لبنان والمشرق.

(1)الحلاج من أعلام التصوف من أهل البيضاء وهي بلدة بفارس، نشأ في مدينة واسط 180 كم جنوب بغداد والعراق، وصحب أبا القاسم الجنيد وغيره. ويعتبر من أكثر الرجال الذين اختلف في أمرهم، وهناك من وافقوه وفسروا مفاهيمه.