بكثير من "الانفتاح"، جال قياديو "التيار الوطني الحر" على مختلف الأفرقاء، الخصوم منهم والحلفاء على حدّ سواء. محمّلين بـ"المبادرة" التي أطلقها رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، أقبلوا على من زاروهم، شارحين عمقها، وموضحين بعض الالتباسات التي أحاطت بها.

النتيجة المبدئية للجولة إيجابية، يقول "العونيون"، لكنّها إيجابية محصورة بالأقوال لا الأفعال، يقول العارفون. يكفي التوقف عند بعض "الشكليات" المرافقة للجولة، ولا سيما في "محطتي" كتلة "المستقبل" وكتلة "التنمية والتحرير"، للوصول إلى خلاصاتٍ قد لا تكون مبشّرة على الإطلاق...

بري ينأى بنفسه..

منذ أعلن العماد ميشال عون عن مبادرته في مؤتمره الصحافي الأخير، حرص رئيس المجلس النيابي نبيه بري على عدم التعليق عليها، لا إيجاباً ولا سلبًا.

هكذا، وفيما كان "الحليف المشترك" بين الرجلين يدعو للتعاطي مع مبادرة "الجنرال" بإيجابية عبر إعطائها حقها من الدراسة والتمحيص، رُصِد لبري موقفٌ وحيدٌ يتيمٌ بادئ ذي بدء لم يتجاوز قوله أنه "اطّلع" على المبادرة وبنودها، لا أكثر ولا أقلّ.

ولعلّ ما زاد الطين بلّة كان غياب رئيس كتلة "التنمية والتحرير" عن اللقاء الذي جمع وفد التكتل بالكتلة، في حين أنّ كلّ رؤساء الكتل الآخرين حضروا مثل هذه اللقاءات، ما أوحى وكأنّ بري "نأى بنفسه" عن المبادرة عن سابق تصوّر وتصميم.

بنودٌ غير قابلة للحياة؟!

عمومًا، لم يبدُ موقف بري مستغرَبًا بالنسبة لعون، كما تقول مصادر سياسية متابعة، حيث تشير إلى أنّ العلاقة بين الرجلين ليست أبدًا في أحسن أحوالها، وهو ما لم يعد خافيًا على أحد، وقد أصبح واضحًا وضوح الشمس، وترجِم بتصريحاتٍ لا لبس فيها في الآونة الأخيرة. وتذهب المصادر لحدّ القول أنّ العلاقة بين بري وعون على وشك الانفجار، نظرًا للتباعد الذي يتوسّع أكثر فأكثر يومًا بعد يوم، وهو لا ينحصر أبدًا بأزمة التشريع، التي لا تعدو كونها ربما "القشة التي قصمت ظهر البعير".

وتشير المصادر إلى أنّ بري أصلاً غير مقتنع بواقعية المبادرة التي طرحها عون، باعتبار أنّ بنودها بمجملها غير قابلة للحياة، طالما أنّ إجراء الانتخابات الرئاسية من الشعب يتطلب أولاً وأخيراً توافقاً عامًا إقليميًا ودولياً، وهو ما ليس متوافراً حتى الآن، كما أنّ الأفرقاء المسيحيين أنفسهم غير متحمّسون له بالمعنى الحقيقي. أكثر من ذلك، تقول المصادر أنّ بري يعتبر أنّ مثل هذا الاقتراح غير دستوري، طالما أنّ الدستور ينصّ على أنّ النظام اللبناني برلماني وأنّ مجلس النواب هو الذي ينتخب الرئيس، وبالتالي فإنّ الحجج التي تُعتمَد للقول أنّ تطبيقه لا يتطلب تعديلاً دستورياً واهية ولا أساس لها من الصحة.

أما اقتراح إجراء انتخاباتٍ نيابيةٍ تسبق الانتخابات الرئاسية، فلا يمانعه بري، بحسب اعتقاد المصادر، ولكنّه لا يراه أيضًا قابلاً للحياة، طالما أنّ كتلاً عديدة ترفض تحمّل مسؤولياتها قبل انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، تحت عنوان "عدم التطبيع مع الفراغ"، وتكتل "التغيير والإصلاح" ليس بعيدًا عن هذا الطرح بأيّ شكلٍ من الأشكال.

بدعٌ جديدة!

لكلّ هذه الأسباب، لم يبارك "الأستاذ" إذاً طرح "الجنرال"، رغم أنّه، كما يقال، عرّاب كلّ المبادرات التي من شأنها أن تفتح كوة في جدار الأزمة. ولكنّ موقف "الأستاذ" المعارض بحذر لم يكن وحده الذي اصطدمت به المبادرة "العونية" على الأرض.

فإذا كان بري قد "نأى بنفسه" بشكلٍ أو بآخر عن المبادرة، وتجنّب إلى حدّ بعيد الحكم عليها، فإنّ "تيار المستقبل" تولى المهمّة منذ اللحظة الأولى، دون أن يكبّد نفسه عناء انتظار إتمام اللقاء مع وفد التكتل، والذي عقد بعد ظهر يوم الأربعاء.

تلفت المصادر في هذا السياق إلى البيان الذي صدر عن "كتلة المستقبل" قبل ساعاتٍ من هذا اللقاء، والذي تضمّن انتقاداتٍ واضحةٍ وصريحةٍ لها، وإن بشكلٍ غير مباشر، حيث تحدّث البيان عن اهمية التمسك بالنظام الديمقراطي البرلماني الذي نص عليه الدستور وعدم الاقدام على التورط بما أسماها "بدعًا جديدة تشرع البلاد ونظامها الديمقراطي البرلماني على شتى أنواع المخاطر"، وهي عبارة لم تحتج للكثير من الفحص والتمحيص لفهم أبعادها ومعانيها.

المكتوب يُقرَأ من عنوانه..

برأي مصادر "تيار المستقبل"، فإنّ المكتوب يُقرَأ من عنوانه، وإنّ هذه المبادرة حاول "الجنرال" أن يفصّلها "على قياسه"، لعلّها تكون "بوابة عبور" لنفسه إلى قصر بعبدا، بعدما يئس من إمكانية ولوجه بتسويةٍ سياسية تحوّله بين ليلةٍ وضُحاها من "طرفٍ" إلى "توافقي".

تلفت هذه المصادر إلى أنّ هذه المبادرة تنطوي على نعيٍ لاتفاق الطائف حتى قبل تطبيقه بشكلٍ كاملٍ، رافضة ما روّجت له أوساط "التيار الوطني الحر" بخلاف ذلك، متسائلة: "كيف يكون مثل هذا المقترح لا يتطلب تعديلاً دستورياً كما يقولون، في وقتٍ يقول دستورنا أنّ مجلس النواب ينتخب الرئيس، ويشرّع هذا الطرح انتخابه من الشعب؟"

"هو انقلابٌ كاملٌ على النظام"، تقول المصادر، مع تسجيلها لـ"سقطة أخلاقية" وقعت المبادرة في "فخّها" من خلال طرح انتخاباتٍ رئاسيةٍ مباشرة من الشعب على مرحلتين، وفق معايير وأسس طائفية ومذهبية تقسيمية، "لن تؤدّي سوى لإغراق البلاد في مجهولٍ تشتمّ منه رائحة فتنوية بغيضة"، مستهجنة كيف يلجأ تيارٌ يصف نفسه بالعلماني لمثل هذه الطروحات الطائفية، سواء كان هذا الطرح أو مشروع "اللقاء الأرثوذكسي" قبله.

عمومًا، تشير المصادر إلى أنّ الأولوية بالنسبة لـ"تيار المستقبل" لا تزال محسومة لجهة إجراء الانتخابات الرئاسية أولاً ومن ثمّ إقرار قانونٍ جديدٍ للانتخابات تُجرى الانتخابات النيابية على أساسه، وهي تستغرب إمعان "التيار الوطني الحر" في المماطلة بعد مرور عامٍ كاملٍ على الفراغ الرئاسي، في حين كان يفترض أن يكون أكثر المستميتين على الموقع المسيحي الأول، وهو الذي يقول أنه يريد حماية حقوق المسيحيين ويرفض تحويلهم لأقلية مهمّشة في المجتمع.

أزمة نظام...

رغم كلّ الأجواء الإيجابية إذاً، لا يبدو أنّ مبادرة عون سيُكتَب لها النجاح. ليس الموضوع فقط أنّ "عدم مباركة" كلّ من بري والسنيورة لها شكّل "ضربة قاضية" لها وعليها، بل إنّ "الترحيب" الذي حصدته من معظم الافرقاء الآخرين لا يسمن ولا يغني من جوع، بل يكاد يكون مجرّد وصفة لـ"رفع العتب"، انسجامًا مع المناخات الحوارية السائدة في هذه الأيام.

وسط كلّ ذلك، يبقى السؤال، إذا كانت هذه المبادرة ستنضمّ لسابقاتها التي رُميت في سلال المهملات، ما هو الحلّ إذاً؟ ألم يحن الوقت ليعترف الجميع بأنّ الأزمة هي أزمة نظام شئنا أم أبينا، وأنّ حلول "المسكّنات" التي لطالما اعتُمِدت لم تعد تنفع؟

المطلوب اليوم حلٌ جذري، لا ضير إن أطاح بالنظام بشكله الحالي، طالما أنه سيحافظ في المقابل على كينونة لبنان الدولة والمؤسسات!