كبيرة هي خيبة مسيحيي لبنان والمشرق، بحجم سنوات النضال من أجل قومية عربية تبين أنها جوفاء من كل المضامين، ولم يعد مجدياً لهم أن يستعرضوا تاريخهم النهضوي منذ أنشأ الشماس عبدالله الزاخر أول مطبعة بالخط العربي في الشرق عام 1733، مروراً بالإرساليات التي جعلوها في خدمة المجتمعات المشرقية، ودورهم الريادي في تأسيس الجمعيات الفكرية والعلمية والأدبية، ونهجهم الاجتماعي والسياسي الجامع الذي دعا إليه جهابذة الأدب والفكر والقانون والفلسفة، عبر حمل رسالة القيم الإنسانية العابرة لحدود الأوطان والمذاهب والطوائف.

ولأن مركزية القوة المسيحية المشرقية هي في لبنان، فقد جاء الطائف ليقضي على صلاحيات رئيس الجمهورية، وجاءت المناصفة الطائفية شكلية، وباتت غالبية النواب المسيحيين محسوبة على زعامات الطوائف الأخرى، وخسر المسيحيون مناصفة الوظائف، وتكرّس عليهم واقع ميثاق جديد؛ بأن يكون رئيس المجلس النيابي هو الأقوى شيعياً، ورئيس الحكومة الأقوى سنياً، بينما رئيس الجمهورية مطلوب دائماً أن يكون الأضعف مسيحياً، تحت ذريعة أنه رئيس كل لبنان، إلى أن وصل المسيحيون اليوم لأن يكونوا رهينة سواهم بوجود مسيحيين آخرين ارتضوا أن يكونوا أتباعاً لزعامات غير مسيحية محلية، لمجرد أنهم وصلوا إلى الندوة البرلمانية عبر هذه الزعامات، وباتوا أدوات طيّعة لدى قوى إقيلمية أوردت "ويكيليكس" مؤخراً وقائع موثقة عن ارتهانهم.

المسألة الأكثر سخرية أن الفراغ الرئاسي في كرسي فارغ أصلاً من الصلاحيات، بات بعض شركاء الوطن من المسلمين يحمّلون مسؤوليته إلى المسيحيين، وينسبونه إلى الخلاف المسيحي - المسيحي على هذا المنصب، والمسلمون يدركون أن بعض المسيحيين هم مجرد رهائن لديهم، وقرارهم السياسي ليس بأيديهم، وبات سفير دولة عربية يعلن دون أي إحراج أن دولته لا توافق على زيد أو عمرو لرئاسة الجمهورية اللبنانية.

واقع مسيحيي لبنان اليوم لا ينفصل عن واقع مسيحيي المشرق، وإذا كان فريق من الشركاء المسلمين اللبنانيين يستعمل راهناً بعض المسيحيين لتدعيم وزنه السياسي في المجلس النيابي أو في الحكومة، فهذا لن يعوّض عليه خسائره الجسيمة في شارعه منذ بداية العام 2011 وحتى الآن، وخسائر بعض الزعامات السُّنية لشارعها السُّني لا تقل عن خسائر المسيحيين المشرقيين، وإذا كان الغبن بحق المسيحيين اللبنانيين يبدو في ظاهره مرتبطاً بحقوق المناصب، فإن المسألة باتت وجودية ومصيرية وغالبية المسيحيين حسموا خياراتهم منذ العام 2005، وبدلاً من أن تكون الرئاسة والمناصفة في الوظائف جوائز ترضية لهم، فستكون في المستقبل القريب اعترافاً بدورهم كشركاء لا غنى عنهم، سواء في لبنان أو من بقي منهم في سائر المشرق، بعد انحسار موجة التكفير، وإذا كانت موجة تهجيرهم على أيدي المتطرفين من سورية والعراق تندرج ضمن ذريعة معارضتهم لـ"دولة الخلافة" كما صرّح منذ أيام أحد مجتهدي الفكر التكفيري "الداعشي"، فإن إطلالة بلال دقماق ووصمهم بالكفار عبر قناة تلفزيونية لبنانية ما هو إلا اعتراف بدورهم في دعم المقاومة اللبنانية في مواجهة التكفير.

وإذا كان المسيحيون المشرقيون، واللبنانيون بشكل خاص، قد تخلوا عن حلم الانتماء القومي العروبي بعد ثبوت عدم إمكانية قيام قومية عربية، نتيجة الخذلان العربي منذ العام 48، وتلطّخ أيادي العرب بدماء العرب من أجل مشاريع "الإسرائيليات" منذ بدايات "الربيع العربي"، فإن المسيحيين لم يستنجدوا بالغرب، وقد أحسنوا بذلك، وصدق حدسهم عندما وقف الغرب متفرجاً على تهجيرهم من العراق ومن بعض أنحاء سورية، وعرض على المسيحيين اللبنانيين الهجرة إلى فرنسا، و حسموا خيارهم وحزموا أمرهم وانطلقوا نحو الشراكة المشرقية مع من يعترف بوجودهم.

هذه هي حقيقة الوضع المسيحي المستجدّ في لبنان وسائر المشرق؛ معركة وجود لبقاء المسيحيين في أرضهم، من منطلق إيمانهم بالإقبال على الآخر وقبول من يقبل بهم، لاستكمال رسالة وجودهم، وما إعلان الفاتيكان مؤخراً أن حزب الله يحمي المسيحيين في لبنان سوى إقرار من أعلى مرجعية مسيحية في العالم بصوابية توجهات المسيحيين اللبنانيين الرافضين لأية إملاءات غربية عليهم، لأن الشراكة الوطنية من أجل لبنان عزيز كريم محرر وسيد قراره تتحقق من خلال التفاف غالبية المسيحيين حول المقاومة اللبنانية، وهذا التحالف هو مطلب إسلامي - مسيحي مشترك، وزواج ماروني على المستوى الوطني اللبناني والاستراتيجي المشرقي، ولا طلاق فيه ولا بطلان زواج..