ليس الرئيس تمام سلام من فصيلة المنهزمين ومع ذلك كاد كيس نفايات يدفعه الى مفاجأة وزرائه بقرارٍ فردي لا يحتاج الى آليّة إجماعية أو أكثرية، قرار يتخذه وحده مكرهًا: الاستقالة. قرار يؤكد المقرّبون من الرجل أنه ليس “تهريجيًا” ولا مزحةً ثقيلة فيما ينظر اليه كثيرون من أبناء الحكومة وأشقائهم على أنه إحدى مناورات الرجل التي باتت محفوظة عن ظهر قلب والتي اكتسبت درجة ترقية هذه المرة لتترفّع من “الحردة” الى التلويح بالاستقالة.

كيف لحكومةٍ لا تجيد إدارة نفاياتها أن تدير بلدًا ومؤسّساته؟ ربّما طرح ابنُ صائب سلام هذا السؤال على نفسه مرارًا وتكرارًا قبل ليل أمس ليصل منذ فترةٍ قصيرة الى جوابٍ-غصّة: أخطأنا يوم أسمينا الحكومة بالمصلحة الوطنية.

من المُنتفِع؟

في الملأ الجميع يرفضون استقالة الحكومة بحكم أن رحيلها لن يقدّم أو يؤخّر، أما في قناعات المصيطبة فهناك من ينتفع من هذه الاستقالة. لا تسميات واضحة رغم أن الغمز كفيلٌ بحسم أن هؤلاء المنتفعين هم حكمًا معطلو العمل الحكومي والمساهمون في شلّ البرلمان على السواء. لا يُطعِم الكلام المتمسّك ببقاء الحكومة المصيطبة خبزًا وهي التي لا تريد سواء أفعالٍ تتجلى في إعادة النبض الى قلب السلطة التنفيذية بتيسير عملها وعدم إدخالها الى العناية الفائقة عند كلّ مفترق وفي كلّ ملفّ. كلامٌ لا يُقنِع أكثر من فريقٍ حكومي يمكن أن يقول لسلام في وجهه إنه أخطأ كبير الخطأ في ملف النفايات يوم كبّل وزراءه سياسيًا فيما كانت القرارات متخذة وجعل من نفسه شريكًا غير مؤكّد في صفقة كبرى، تمامًا كما أخطأ كبير الخطأ عندما ظنّ نفسه رئيسًا للجمهورية يمكنه أن يتصرّف بصلاحيات من هو أعلى منه منصبًا كما يحلو له وأن يستغلّ غيابه ليمارس صلاحياته منفردًا، فتارةً يوقّع مرسومًا ويمضي غير سائل، وتارةً يسوّف البحث في الآلية، وتارةً يصرخ في وجه وزراء حكومته ساخطًا قبل أن يعتذر، وتارةً يسمح لوزير من وزرائه أن يتشاور مع طرفٍ واحدٍ في شأن ملفٍّ حساس كالتعيينات متجاهلاً باقي الأفرقاء الحكوميين... كلّ تلك “الثغرات” التي يتحدث عنها بعض الوزراء تجعلهم يضيقون ذرعًا بتصرّفات الرجل الذي يعود ويمارس ضغطًا من قبيل التلويح بالاستقالة على قاعدة “ضربني وبكى سبقني واشتكى”.

“يقبضها جدّ”

كلّ الأمور المتعلقة بخيار الاستقالة تبقى ضبابيّة بالنسبة الى اللبنانيين. ففيما يبدو وكأن سلام “يقبضها جدّ” هذه المرة وهو ما لا يفارق أفواه وزرائه ومصادره الذين يؤثرون التلميح الى أن كلّ الاحتمالات واردة بما فيها الاستقالة من دون أيّ حسم أو تخصيص، ما زالت هناك قناعة راسخة في رؤوس بعض وزراء حكومته قوامُها نظريتان: أولاهما أن الرجل أذكى من أن يستقيل في ظرفٍ مماثل ويرمي البلاد في المجهول وهو الذي يسبقه تاريخ والده وهيبة البيت الذي ينتمي اليه ناهيك عن الاتصالات الداخلية والخارجية التي تثنيه عن الاستقالة وتلتفّ حوله وتدعمه. وبالتالي يمكن للرجل أن يوظّف هذا الدعم في اعتكافه عن استقالته الافتراضية لإظهار حجم الالتفاف حوله كسيّد اعتدال وهدوء وسلام. وثانيتهما أن الرجل أجبن من أن يستقيل وهو الذي لم يحلم يومًا بأن يحظى بمنصبٍ مماثل في ظلّ وجود صقور سنّة ينتمون الى تيار المستقبل وهم أحقّ بذلك، وكي لا يذهب الكثيرون في مخيلاتهم بعيدًا الرئيس سعد الحريري خيار أوّل. وعليه، هو يناور فحسب باستقالته كورقة ضغطٍ ليعود الوزراء “الخروبيّون” الى رشدهم ويتعقلوا ويشعروا بسخونة سقوط حكومة ليس من مصلحتهم هم أولاً أن تسقط سواء كان حزب الله الغارق في هموم الميدان السوري وغير الباحث عن خضّةٍ داخلية من قبيل الاستقالة التنفيذية في زمن الشغور الرئاسي والشلل التشريعي، أم التيار الوطني الذي لن يرتضي بألا يكون شريكًا في ممارسة صلاحيات الرئيس الغائب، أم حزب الكتائب الذي لم ينتظر يومًا أن يحظى بفرصة ذهبيّة للحكم مع ثلاثة وزراء، أم حتى المستقبل الذي سيضنيه تكليفٌ جديد في حمأة اختناق “العراب السعودي” من الاتفاق الإيراني-الأميركي وهواجسه المرتبطة بإمكانية تمدّد نفوذ الجمهورية الإسلامية في المنطقة.

يقولون الحرف ونقيضه...

يؤكد وزير الشؤون الاجتماعية رشيد درباس لـ”​صدى البلد​” أن “المسألة لا تتعلق باستقالة الحكومة من عدمها. فالحكومة المستقيلة هي كالحكومة التي لا تعمل، أي كلتاهما في حالة بطالة، والرئيس سلام لا يقبل أن تُفرَض عليه البطالة. القضية ابتدأت منذ فُرِّغت الرئاسة فشُلّ مجلس النواب والعمل اليوم جارٍ على شلّ الحكومة، وسلام لن يقف متفرّجًا حيال ذلك، بل سيضع النقاط على الحروف وسيوضح المسؤوليات وبعد ذلك يتحمّل الكلّ مسؤوليته. أظنّ أن الاستقالة هي الحلّ الوحيد أمامه ولكنها تبقى من الحلول الواردة”. ولكن من تتهمونه بالتعطيل والشلل هم أنفسهم من يجاهرون بعدم جدوى الاستقالة ويبدون حاجتهم الى الحكومة؟ يجيب درباس: “منذ مدة نسمع خطابًا يتناقض فيه الحرف مع الحرف والكلمة مع الكلمة، فعندما يقولون إن الاستقالة لا تقدم ولا تؤخر ولكنها تؤدي الى الخراب معنى ذلك أنها تقدّم وتؤخر. يريدون الشيء وعكسه في آن، وبالتالي عندما تقف أمام منطق سقيم تتهاتر فيه الحجج في سطر واحد بل في الكلمة الواحدة لا يعود من مجال للبحث أو انتظار حلول أو وسطاء”. أيعوّلون على عدم تجرّؤ الرئيس سلام على تبني خطوة من قبيل الاستقالة؟ يتلقف درباس: “فليتوقفوا عن التعويل على الرئيس سلام الذي لا يعطيهم سرّه وهو الذي صمد طويلاً وظهر أخيرًا حجم التضامن الكبير معه داخليًا وخارجيًا”.

وعلمت ”صدى البلد” أن ”أجواء إيجابية سادت يوم أمس على مستوى الاتصالات التي أجريت للحرص على أن تكون الجلسة متى تمّ تثبيتها واستبعاد خيار إرجائها هادئة وفيها نقاشٌ حكيم بلا صخب لا يحتمله البلد. أجواء إيجابيّة تزامنت مع حلحلةٍ جزئيّة لأزمة النفايات ليلاً أوحت للكثيرين بأن سلام سينزع فكرة الاستقالة من رأسه وسيتوقف عن الهمس بها أمام زواره ومقرّبيه».

خيارات...

بين حكومةٍ عاطلة من العمل لكن موجودة شكليًا وحكومة مستقيلة يعلم سيّدها أن مهامه انتهت فيها وليست معلّقة بفعل فاعل، قد يؤثر سلام الذي لم يراهن أحدٌ يومًا على استقالته الخيار الثاني. ذاك الخيار الذي قد يكون حتى الساعة مجرّد ورقة ضغطٍ على “زاركيه” في زاوية الآلية والتعيينات، قد يتبلور بسرعة ليغدو آخر الحلول المنطقية... خيارٌ يرفضه الجميع ويريدونه في آن. قريبًا قد يختم سلام آخر خطاباته كرئيس حكومة بعبارة: عشتم، عاش لبنان، عاشت حكومة التناقض الوطني.... حينها فقط، وإن اتّضح أنها ليست مسرحية وطنية، سيحتار المحللون في منح الحكومة وصفًا من أوصافٍ عدة: ضحية الآلية أم ضحيّة النفايات أم ضحيّة الاثنين معًا... أم ضحيّة نفسها؟