كنا ننتظر الاول من آب بفارغ الصبر لرؤية الاحتفال المركزي الذي يقيمه ​الجيش اللبناني​ في عيده، ويتضمن عرضاً رمزياً لوحداته العسكرية، وكنا في صغرنا ننتظر بشكل خاص دخول "المكافحة" التي كانت تحظى بموسيقى خاصة مختلفة عن غيرها، وذلك قبل ظهور افواج التدخل والمجوقل والمغاوير...

كان الاول من آب يشكل لنا مساحة تنفس، تجعلنا نتشبث بالبقاء في هذا البلد وتجدد الامل في ان حل المشاكل سيظهر ولو طال الوقت، وانه في انتظار هذا الحل يمكن الاعتماد على الجيش اللبناني، ولم يكن الرهان خاطئاً. ولكن اصبحنا نتوق الى رؤية احتفال عادي في هذا التاريخ، دون القلق من المشاكل السياسية والامنية وتدخلاتها التي قد تلغي هذا الاحتفال، كما قد تمنع خريجي الكلية الحربية من التنعم بالسيف الذي وعدوا به طوال اقامتهم في الكلية، لدى تخرجهم.

لطالما كان الرابط قوياً ومتيناً بين العسكريين في الجيش ضباطاً ورتباء وافراداً، والمواطنين، وهو ما يظهر جلياً في الثقة الكبيرة التي يحظى بها الجيش وتميّزه عن سائر القوى الامنية التي وان قامت بعملها كاملاً، وتحظى باحترام الناس، الا انها لم تصل الى اقامة الرابط الذي اقامه الجيش مع اللبنانيين.

كانت المعادلة قائمة على حبّ البذلة العسكرية، وصيانة هيبتها، في مقابل تطبيق الجيش لشعاره الشهير: شرف، تضحية، وفاء. للاسف، لم تعد هذه المعادلة صالحة، وليس الجيش من اخلّ بها، بل... الدولة واللبناني.

فقد خفّ حبّ البذلة العسكرية لدى قسم من اللبنانيين الذين فضلوا الخروج عن المنطق والطريق الصحيح، والتوجه الى خيار يرتاحون اليه اكثر ويؤمّن لهم التفلّت من الضوابط الاجتماعية والانسانية والامنية، ومن الطبيعي حينها ان تصبح بذلة الجيش عبئاً بالنسبة اليهم وعائقاً امام مشاريعهم. فاستسهل البعض حمل السلاح وخاطروا بتطبيق المثل "السلاح بإيد... بيجرح"، لكنه لسوء الحظ لم يجرحهم بل ادى الى قتل خيرة الشباب واستقوى به الجبان ليطال جبين ابطال لا يحلم بانجاز جزء يسير مما انجزوه.

في المقابل، لم تعد الدولة مهتمة بهيبة الجيش، لسوء الحظ، وهو ما تمثل في الاعتداءات المتكررة على عناصره وعسكرييه ان من باب الارهاب والاجرام، او من باب ضرب معنويات العسكريين من خلال استهدافهم بعبوات ناسفة او اغتيالات او حتى قتلهم او خطفهم، ليزداد فوق كل هذه المصائب مصيبة أكبر بكثير وهي التعرض للجيش من قبل من يسمون انفسهم نوابا ومسؤولين بالتحريض المذهبي والطائفي واتهامه بالتمييز بين مذهب وآخر...

كيف رد الجيش على الهجوم عليه؟ بالمزيد من الانضباط. فما الذي يمنع عسكريي المغاوير والافواج الخاصة او كل جندي مثلاً من التحول الى "زعران" على غرار "الوحوش غير البرية" التي نراها في الآونة الاخيرة، فيستغلون تدريباتهم المتقدمة وكفاءاتهم القتالية العالية، ويمعنون بقتل كل من يعترضهم او يخالفهم الرأي او... يسابقهم على افضلية المرور؟ هل تخيلتم يوماً لو تخلى هؤلاء عن مناقبيتهم وانضباطهم وولائهم للوطن والشعار الذين اقسموا على تطبيقه، ما الذي كان سيحدث؟

لم يفكر احد بهذا الامر، لاننا جميعاً ندرك ان الجيش لم يلجأ يوماً الى مثل هذا الخيار، وانه دائماً ما كان يضع مصلحة الوطن والناس قبل مصالحه الخاصة، وقد تحمّل ما لم يتحمله احد، من قرارات سياسية خاطئة وتساهل قضائي بحق من يعتدي عليه بشتى الانواع، جسدياً ومعنوياً.

لم تعد هيبة الجيش مصانة، وبات التعرض لضابط او عسكري في الجيش امراً عادياً بالنسبة الى المجرمين واصحاب الالسنة السليطة، في حين انه لم يخلّ بوعده التزامه، فبقي محافظاً على شعاره بدماء ابطاله الذين لم يبخل في تقديمهم عند كل استحقاق يتطلب ذلك، من الجنوب الى الشمال مروراً ببيروت وفي البقاع ايضاً. كل منطقة في لبنان تحفظ بشرف وقفة بطولية للجيش، وكل مدينة في لبنان تمتعت بوفاء حمايته لها، وكل بلدة او ضيعة في لبنان تحضن شهيداً او اكثر كتضحية قدمها الجيش.

في الاول من آب، لا يطلب الجيش شعارات باتت روتينية، يتبناها ويؤمن بها الكثير من مطلقيها، ولكنها تأتي فارغة وكاذبة لدى قسم آخر. ليس دعم الجيش بالكلام بل بالافعال، والفعل يكون من خلال العمل على صون هيبة البذلة العسكرية عبر تطرف القضاء في انزال اقسى انواع العقوبات وصولاً الى الاعدام بحق كل من يقتل عنصراً من الجيش، شرط تطبيق هذا الموضوع دون مواربة او مماطلة او تدخلات سياسية من هنا وهناك.

هل بات علينا المطالبة بمساواة الجيش بـ"الزعران" والمجرمين المدعومين لكي يرتاح بالنا بألا يتعرض احد لعناصره؟ لن يقبل الجيش بذلك حتى لو قبلنا نحن، لانه سيجد نفسه في بيئة غريبة عنه قَاتَلَ وَقَدَّمَ شهداء من اجل عدم الوصول اليها.

افضل هدية للجيش في عيده، تكمن في القسم على صون هيبته، والا سيبقى الاول من آب محطة ذكريات فقط لما كان يجب علينا وعلى الدولة القيام به من اجل الحفاظ عليه...