وُقِّعت المراسيم... أعيدت المراسيم. هي أشبه بحالٍ من الفوضى الحكومية التي تشبه الشارع في لحظات شغبه. قد تكون حركة المراسيم المكوكية تلك مؤشرًا أول يسابق التسوية الى تداعي العمل الحكومي، خصوصًا بعد خروج المراسيم من نطاق السراي الى بيوتاتٍ سياسيّة غاب أربابُها عن توقيعها خلال الجلسة عقب انسحابهم... في الأمر إنّ.

لم يفاجئ رئيس الحكومة تمام سلام وزراء تكتل التغيير والإصلاح وحزب الله بإصدار مراسيم عقب انسحابهم من الجلسة. فالرجل الذي لا يصبو الى أن تُصَوَّر خطوتُه “نكائيّة” أو استغفالاً لوزراء كتلتين أساسيّتين في حكومته التي لا تعود من دونهما “مصلحة وطنية”، سبق ومهّد لها بتوقيع 18 وزيرًا معوّلاً على ليونةٍ ما من الوزراء البرتقاليين، من دون أن يحسب حسابًا لسيناريو تضامن حزب الله معهم.

تسوية...

اليوم وبعدما وقعت الواقعة التي ينظر اليها العونيون من باب “المحظور” الذي لا يصبّ سوى في خانة ضرب الشراكة التي تقوم عليها الحكومة في الأساس، والتصرّف بعشوائيّة بصلاحيات رئيس الجمهورية الغائب إلا بصلاحياته المنوطة بالمجلس مجتمعًا، يهدر قطار تسويةٍ ما عرابها الرئيس نبيه برّي تعيد الى الوزراء المنسحبين ماء وجههم من جهةٍ، وتنقذ موقف سلام الذي بدأ يملّ من التعطيل والذي لوّح بعدم تمسّكه بالحكومة في حال باتت موصومة بختم اللاانعقاد. ولعلّ تلك التسوية إنما اكتسبت أول ملامحها في “الوقوف على خاطر” الوزراء المنسحبين بإعادة المراسيم الى ملعبهم لدرسها والتوقيع عليها، وهو ما يؤمّن مبدئيًا عودتهم الطبيعية الى الجلسات المقبلة وأولاها جلسة اليوم بحيث يضمن الجميع أجواءً هادئة تكفل بدورها صمود الحكومة بصفتها المؤسسة الوحيدة العاملة في البلاد والتي قد يرسم سقوطها معالم خرابٍ جليّة.

أكثر من سيناريو

أحدٌ لا يضمن ردّ فعل وزراء التيار وحزب الله في جلسة اليوم، خصوصًا أن الرابية تجهّز نفسها لأكثر من سيناريو ردًا على أي غبنٍ إضافي قد يتعرّض له وزراؤها ومعهم صلاحيات الرئيس. بيد أن كثيرين من المواكبين يلمحون الى أن “هذه التسوية لن تعدو كونها مهدئًا ذكيًا من بري يتجرّعه التيار بحكم الأمر الواقع من دون أن يلغي ذلك مفعول المعضلة الرئيسيّة وهي بيت القصيد أي الآلية، خصوصًا أن المشكلة بالنسبة الى البرتقاليين ليست في المراسيم الصادرة في عينها والتي يعلمون أهمية توقيعها لتسيير شؤون الناس والموظفين، بل في كيفية إصدارها. وفي حال النهل من سبب الانزعاج العوني، يطرأ سؤالان: كيف تمكّنت الحكومة من إصدار المراسيم في غياب ركنين جوهريَّين منها رغم ميثاقية انعقادها؟ وماذا تعني إعادة المراسيم الى مهدها لنيل تواقيع المنسحبين؟

كتلة نار إلهائيّة

صحيحٌ أن البلد غارقٌ في النفايات، وصحيحٌ أن المناقصات سقطت في أول امتحان شفافيّة وأعيدت الى نقطة الصفر، وصحيحٌ أن طفرة الفرضيات إنما تصبّ في خانة اللعب من أجل إعادة سوكلين، وصحيحٌ أن الشارع لا ينفكّ يضغط في اتجاه إسقاط النظام برمّته بعدما تجاوزت حالة الغضب العامة معضلة النفايات، إلا أن الرابية لن تسمح لكلّ تلك الملفات بإشاحة النظر عن “مرض” الآلية المزمن والذي يُرمى في كلّ مرّة، عمدًا أو صدفة، بكتلة نارٍ إلهائيّة تُقدِّم ملفاتٍ معيشيّة حساسة عليه. أما وقد تلاشت المناقصة باعتراض عوني أولاً، يعوّل وزراء التكتل على انتعاش حكاية الآلية خشية أن يأتي الدور على مراسيم أساسيّة يُغيَّب فيها التيار ومعه الرئيس.

هل هناك تجاوز؟

هذا على الجبهة السياسيّة التي تبقى ضبابيّة الى حين حسم انعقاد الجلسة اليوم أولاً، والسيناريوهات التي ستكون بطلتها ثانيًا لا سيّما أن ملف النفايات يتقدّم ما عداه من ملفات. أما عن مدى دستورية توقيع المراسيم في غياب كتلتين أساسيّتين، فيؤكد المرجع الدستوري والقانوني بول مرقص لـ “​صدى البلد​” أنه “إذا كان هناك من تجاوز فهو حتمًا ليس تجاوزًا لأحكام المادة 65 من الدستور التي تنصّ على أكثريّة عادية في مواضيع غير أساسيّة وجلّ المواضيع التي ارتبطت بها المراسيم هي مواضيع غير أساسيّة. أما بالنسبة الى اعتبار أن ثمّة تجاوزًا فهو تجاوزٌ للآلية التي اعتمدها الوزراء بالتوقيع على نحوٍ إجماعي في معرض ممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية بالوكالة بمقتضى المادة 62 لا بمقتضى المادة 65 التي تنصّ على كيفيّة ممارسة الحكومة صلاحياتها الأصلية وليس على كيفية ممارسة صلاحيات الرئيس. علمًا أن هذه الآلية التي اعتمدها الوزراء ليست آلية مقررة في الدستور بل أتت على نحو عُرفي”.

لا استرداد

وعن دستوريّة إعادة المراسيم التي صدرت كي يتسنى للوزراء غير الموقّعين أن يدرسوها ويوقّعوا عليها يقول مرقص: “المراسيم لم تُنشَر لغاية تاريخه في الجريدة الرسميّة، وتاليًا ليس ما يمنع، سواء عُقِد مجلس الوزراء أم لم يُعقَد، من أن يضيف الوزراء غير الموقعين تواقيعهم على هذه المراسيم”. أهي حالةٌ عاديّة؟ يتلقف مرقص: “هي ليست حالة عادية بل حالة تحكمها الظروف والآلية الاستثنائيّة، وليس بموجبها أيُّ استرداد أي العودة عن مراسيم، ولو كان فيها ذلك لأقررنا بحالة فوضى، إنما فيها إضافة اليها من حيث الشكل بالتوقيع كي تُتَمَّم قانونيتها. والأدلّ على ذلك، أنه في بعض الأحيان تكون المراسيم جوّالة فلا تصدر وتُنشَر على نحو نهائي قبل أن تُتمَّم التواقيع. واليوم، ما دامت هذه المراسيم الحاضرة لم تُنشَر في الجريدة الرسمية يمكن إضافة تواقيع الوزراء المنسحبين اليها، وبذلك نكون أمام حالة ترميم المراسيم لتتميم قانونيتها. لجهة ضروريته أو عدمه هذا مبحثٌ آخر لأن في ذلك بحثًا في ما إذا كانت الآلية تحتاج الى إجماع أم لا، أما ركونًا الى الآلية المعتمدة فيأتي هذا الترميم في محله”.

كلّ النظام يحتاج ترميمًا

إذاً لا شيء سوى أجواء إيجابيّة يحاول بعضهم الترويج لها في انتظار بزوغ فجر جديدٍ قد يحمل معه ترميمًا للمراسيم المتسلّلة ما هو إلا مهدّئ في مسيرة العلاجات التي تطلبها الرابية للآلية. ترميمٌ قد لا يجدي نفعًا في نظامٍ يجد الشارع أنه يحتاج برمّته الى ترميم.