تعيش الساحة اللبنانية أزمة شاملة الأبعاد؛ الاقتصادية والسياسية والعسكرية والفكرية، وهناك انقسامات حادة وتباينات عميقة بين الفرقاء السياسيين، من أحزاب وطوائف وعشائر، حول طرق الخروج من هذه الأزمات، ولا جدوى لأي حوار بين هؤلاء، بسبب انعدام المنطلقات والثوابت الأخلاقية والسياسية.. ولنأخذ ثلاثة أمثلة على ذلك:

يقر الجميع بتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وتردي الخدمات العامة والبنية التحتية، لكن الإصلاح الحقيقي يفرض نقد السياسات المتَّبعة منذ مؤتمر الطائف، أي نهج الليبرالية الجديدة، بقيادتها الحريرية المستمرة بشكل ما حتى اليوم، لكن قسماً كبيراً من اللبنانيين يعتقد أن الحريري "عمّر لبنان" ولم يخرّبه، بالرغم من دفعه البلد إلى فخ المديونية، وتحميل كل لبناني، كمعدّل عام، دَيناً يفوق 20 ألف دولار سيورثه إلى أبنائه وأحفاده، رغم نمو البطالة والفقر.. ونقاش هذا الموضوع يمس، لدى البعض الفاعل، مصالح خاصة تحتمي خلف أوتار طائفية يسهل العزف عليها لتعطيل العقل والحوار.

الأكثرية الساحقة من اللبنانيين يعبّرون، ولو شكلاً، عن رغبتهم بتجاوز البنية الطائفية للنظام الذي جعل لبنان عنقوداً من الطوائف المتجاورة والمتداخلة والمتناقضة والمتزاحمة قياداتها على تقاسم الوطن ونهشه.. كل عملية إصلاح تمس فريقاً فاسداً ومفسداً، واحتكارياً، ومتسلطاً على جميع اللبنانيين، يصطدم بـ"حقوق" بعض الطوائف و"امتيازاتها"، أو بالأحرى مصالح بعض القيادات الطائفية، فيتم تعطيلها.

إن الكلام عن حقوق الطوائف وامتيازاتها يُسقط حقوق "المواطن" اللبناني وادعاءات الديمقراطية والمساواة بين اللبنانيين.

جميع اللبنانيين تقريباً، إلا بعض الجهلة، يقرّون بأن "إسرائيل" هي العدو الذي يشكل تهديداً استراتيجياً لأمن لبنان، وأن لها أطماعاً معروفة بأرضه ومياهه، وما زالت تحتل قسماً من أرضه، وتنتهك مياهه الإقليمية وسماءه كل يوم، والجميع يعلم من حرر لبنان وحماه ويحميه، ويدرك عجز الجيش اللبناني عن القيام بهذه المهمات، لكننا نسمع كل يوم كلاماً عن خطر سلاح المقاومة على "الاستقرار" و"الأمن" في لبنان، كما على "الديمقراطية" و"المساواة" بين الطوائف، وبالتالي ضرورة إسقاط هذا السلاح، متخطين خطر العدو "الإسرائيلي" وأطماعه، وكل نقاش حول هذا الموضوع لا جدوى منه، كما بيّنت السنوات الماضية.

إن الخروج من المأزق البنيوي الشامل في لبنان يفرض خروج الجماهير من تحت عباءات القيادات الطائفية، لتستعيد عقلانيتها، وتتمكن من إعادة بناء الوطن، وربما كان ما نشهده من حراك جماهيري بداية الطريق إلى صنع المستقبل.