بدأت العمليات العسكرية الروسية في سورية بالتزامن مع اعتراضات دولية وإقليمية من جهة ورهانات على خرق جدي لمسار الحلّ السياسي من جهة أخرى، وحسب النتائج المتوقع تحققها في ظلّ التحدّي الواضح الذي أرادت روسيا خوضه بتحجيم قدرات التحالف الدولي وإظهار فشل زعمه بالقضاء على بؤر الإرهاب في سورية باتفاق دولي على معركة جوية مشروعة.

روسيا التي لم تدخل التحالف الدولي برّرت ذلك بعدم ثقتها بنجاعة العمليات غير المترافقة مع تنسيق بري على الأرض، وبعدم ثقتها بأنّ الولايات المتحدة هدفها فعلاً القضاء على الارهاب، هذه القوات تتمثل بالجيش السوري الذي ستنسق معه غرف العمليات الروسية من الأراضي السورية. وبالتالي درست روسيا جيداً الآلية والتوقيت لإحداث هذا الخرق المنشود الذي ستتقدّم معه العملية السياسية في سورية.

وإذا كان لروسيا تكتيك خاص للتعاطي مع الإرهاب، فإنّ الاستحقاق الأكبر أمامها يكمن بمواجهة العصابات المسلحة المدعومة استخبارياً من أطراف اقليمية ودولية أسّست ما يكفي من العوائق التي تحول دون استهدافها، نظراً إلى ما تشكله هذه الأطراف من امتداد لسياسات يبرّر بعضها بضرورات الأمن الحيوي لتلك الدول، وبالتالي فإنّ استهدافها يُعتبر حرباً مباشرة، أو ورقة ضغط على الطرف المعني بدعم هذه المجموعات و«جبهة النصرة» واحدة منها.

شكّلت «جبهة النصرة» وهي الفرع الأول لتنظيم «القاعدة» في بلاد الشام أول رهانات «إسرائيل» في إمكانية أن تقضم أراضي من الدولة السورية تستخدم كـ»حزام أمني» على غرار ذلك الذي كانت قد فرضته في جنوب لبنان، عدا عن دعمها الوحدات القتالية الإرهابية لوجستياً في مناطق عدة مثل القصَيْر المتصلة بالحدود اللبنانية، حيث كانت قوات حزب الله العام 2012 تتخذ لها مراكز أمنية وتدريبية، بالإضافة الى ما شكلته المنطقة من أهمية استراتيجية على مدى استباحة «إسرائيل» السيادة السورية، وشكلت مراكز مراقبة الى الداخل اللبناني، خصوصاً في البلدات والقرى التي يتواجد فيها حزب الله، ولا تزال تعتبر معارك القصَيْر بعد تحريرها أكثر المعارك قدرة على إحداث تحوّل في العمليات العسكرية للتكفيريين، لكنها أفرزت في الوقت عينه مسلحين استطاعوا الهرب الى الداخل اللبناني نتيجة ثغرات حدودية وسوء تنسيق بين الحكومتين اللبنانية والسورية، بالإضافة إلى مرحلة تكفلت بتشكيل غطاء سياسي لمسلحين هربوا الى لبنان مع وجود أصلاً معابر غير شرعية بكثرة.

وأكد وزير الحرب «الإسرائيلي» موشيه يعلون في غير مناسبة منذ اندلاع الأزمة السورية انّ «جبهة النصرة» لا تشكل خطراً على «إسرائيل» بل تعتبر مساعداً لها في إعاقة حراك حزب الله في المناطق الحدودية المحاذية للشريط المحتلّ مع سورية، وربما راهنت «إسرائيل» منذ وجود حزب الله على الأراضي السورية على منعه من السيطرة على مراكز قتالية تشكل خطراً عليها، بعدما تمدّد نفوذه الاستخباري من قلب سورية ليضيفها الى ما يملك من معلومات نتيجة تمركز وحدات الاستطلاع على كيان العدو.

تركيا التي سهّلت دخول «جبهة النصرة» ودعمت تمدّدها أيضاً تضاف الى النيات «الاسرائيلية» بقضم أراضٍ حدودية مع سورية من أجل إنشاء منطقة عازلة، كما حاولت مراراً فأجهضت بفشل سياسي ذريع مع حلفائها الاميركيين، وبالتالي بقي رهانها على إحداث فارق يجلب لها نقاطاً تفاوضية عبر استخدام «النصرة» كورقة ضغط في أكثر من وجهة وقضية، كلّ هذا يضاف الى محاولات «تشريع النصرة» في الكونغرس الأميركي بتسميتها «المعارضة المعتدلة»، وهذا يقع إفشاله على عاتق التدخل الروسي.

لبنان هو أحد ضحايا «جبهة النصرة»، وأول من تعرّض لعملياتها الإرهابية بتبنيها اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكانت أولى عملياتها الكبرى في المنطقة، وبقي ضحيتها الى أن بدأت الازمة السورية، وتنفيذ عمليات انتحارية عدة وسيارات مفخخة في البلاد وصولاً الى خطف عسكريين لبنانيين لا يزالون حتى الساعة في قبضتها في ملف لا يمكن أن يطول أمد تأجيله أكثر، بحسب توقعات أمنيين.

الضغط الذي ستتعرّض له «جبهة النصرة» ومن ورائها كلّ من تركيا و«إسرائيل» نتيجة القصف الروسي على مواقعها في سورية ستجعل من «النصرة» مضطرة إلى ردود فعل في كلّ ملف تستطيع أن تشكل ضغطاً فيه، وبالتالي فإنّ لبنان الذي تعتبر جروده محتلة من قبل الإرهابيين مع عرسال البلدة التي تعجّ بالمقاتلين المسلحين المتوارين عن الأنظار، على موعد محتمل مع التصعيد الأمني الذي ستزيد احتمالاته كلّما تزايد الضغط الروسي في سورية واقترب من تحقيق إنجازات تأخذ نحو المزيد من الضغوط، وعليه فإنّ ملف العسكريين اللبنانيين المخطوفين على موعد مع تصدّر المشهد مجدداً باقتراب ساعة الصفر التي تحتّم على «جبهة النصرة» إعادة التموضع واتخاذ مواقع أكثر أمناً هرباً من اشتباك آتٍ لا محالة. وعن هذا الملف تبقى المسؤولية الأكبر على عاتق الحكومة اللبنانية والأجهزة الأمنية الكفيلة بتكثيف الجهود للتوصل لنهاية ناجحة تختتم هذا الملف، قبل إن يضطر لبنان للانقياد لضغوط حتمية يفرضها تدهور الأوضاع الداخلية أمنياً نتيجة التطورات الراهنة في سورية في كلّ لحظة يتقدّم فيها الروس أكثر نحو حسم ملفات المجموعات المسلحة وعلى رأسهم «النصرة».

ملف عرسال والعسكريين إلى واجهة الحسم قريباً…