لم تتخذ الامور وقتاً طويلاً لتظهر جدية التدخل الروسي في سوريا من الناحية العسكرية. فبعد ان كان الامر يعتمد على بعض المساعدات العسكرية والاستراتيجية، اضافة الى الموقف السياسي الثابت الداعم للرئيس ​بشار الأسد​، قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اخذ زمام المبادرة على الارض والتحرك ميدانياً.

وبغض النظر عن حجم القوة العسكرية التي ارسلها بوتين الى سوريا، والتي من الطبيعي الا ترقى الى مستوى القدرة على تنفيذ غزو للاراضي السورية، الا ان الرسالة معنوية بالدرجة الاولى. بداية، لا بد من الاشارة الى السرعة الفائقة التي فصلت بين قرار ​روسيا​ التدخل عسكرياً في سوريا ووصول الطائرات والمعدات والجنود الى الاراضي السورية، اي ان الامر كان مخططاً له من قبل ولم يأت وليد الساعة. كما ان ردود الفعل على هذا التدخل لم تصل في اي وقت الى حد الاستنكار او التنديد او حتى المعارضة وطلب تفويض من ​الأمم المتحدة​.

يتفق المحللون على ان بوتين رأى فرصة سانحة امامه وانتهزها، وتمثلت بقرار الرئيس الاميركي ​باراك أوباما​ "نفض يده" من الغرق في اي مستنقع في الشرق الاوسط او خارجه، وهو وصل الى الرئاسة عبر الوعد بسحب الجنود من أفغانستان وعدم الدخول في حروب تؤدي الى خسائر بشرية لا يتحملها الاميركيون، وقد نفذ وعده بالفعل. واليوم، يحاول اوباما الابتعاد قدر الامكان عن تجارب من سبقه وخصوصاً جورج بوش الابن، فسحب الجنود من افغانستان (رغم ان ذلك ادى الى نهضة معنوية لحركة طالبان التي تحركت منذ سنوات وسيطرت لفترة من الزمن على مدينة قندوز قبل ان تخسر جزءاً منها مجدداً)، ولم يتدخل عسكرياً في ​الحرب السورية​ او ما شهده ​العراق​، واكتفى حين احتدمت الامور بالضربات الجوية في ما اسماه "الحرب على داعش".

في المقابل، اعتبر بويتن ان التردد الاميركي الميداني يتيح له اخذ المبادرة، واستعادة الدور السوفياتي في الشرق الاوسط، فلم يتردد للحظة وبدا فوراً بالحراك العسكري والتنسيق الاستخباراتي مستنداً الى امرين رئيسيين: الاول هو تقوية موقف الرئيس السوري بشّار الأسد وفريقه في اي مفاوضات قريبة للحل، والثاني اظهار فعالية روسيا في الحرب على الارهاب بعد "فشل" الاميركيين في هذه الناحية.

ولا شك ان بوتين يدرك تماماً ان الرهان على الاسد خاسر لا محالة، فحتى بقاؤه في السلطة خلال الفترة الانتقالية لن يعيد اليه صورته السابقة قبل الحرب، والسلطة السورية تعيش فترة حرجة لانها تعلم ان عليها تقاسم النفوذ مع جهات اخرى سيتم تحديدها في وقت لاحق عند نضوج التسوية، وبالتالي يجب تقوية وضعها على الارض للمطالبة بنفوذ اكبر.

اما الرقص مع الاميركيين، فيدرك بوتين انه سيصب لمصلحته حالياً، معوّلاً على الدور الاوروبي المنقسم حيال الوضع في سوريا، والذي ساهم في زيادة شرخه ملف اللاجئين، فظهرت روسيا وكأنها "المنقذ الفعلي" للاوروبيين من "تسونامي" اللاجئين، وانه يفهم هذا الوضع اكثر من الاميركيين لانه حارب في الواقع الارهاب في ​الشيشان​ ويملك الخبرة اللازمة، وفق ما يراه، للتعامل معه قبل ان يعاني من نتائجه في روسيا بالذات.

كما يرغب بوتين في توجيه رسالة دولية مفادها انه راغب وبقوة، في الحفاظ على موطىء القدم في الشرق الاوسط الذي كسبه من ​الاتحاد السوفياتي​، وانه لن يقع في الخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة الأميركية حين دفعت بكل ثقلها برياً وبحرياً وجوياً لدى غزو العراق عام 2003، وهو لن يلعب الدور نفسه ولو اتبع الاسلوب نفسه في التدخل دون اذن (مع تنسيق بالطبع مع الدول الكبرى)، ولن يخلق حالة جديدة في سوريا او غيرها عبر حل الوضع القائم وفرض وضع جديد قد لا يتلاءم مع متطلبات المرحلة.

هي اذاً لعبة شطرنج اميركية-روسية على ارض سورية، ويدرك الجميع انها لن تصل مطلقاً الى حد التهديد بحرب عالمية او حرب بين القوى العظمى، ولكنها حرب نفوذ ادت ايضاً الى تحرك صيني محدود جداً ولكنه لافت بالطبع.

يراهن بوتين من خلال حركته الاخيرة على كسب نفوذ اكبر في الشرق الاوسط، بعد تراجع الاميركيين، وعليه يجب انتظار الرد الاميركي ليبنى على الشيء مقتضاه.