تفاوتت سبل مواجهة الإرهاب في الغرب بعد تفجيرات باريس، وقاربت حدود الإرباك. وإذا كانت دول الاتحاد الأوروبي معنيّة بوضع استراتيجيات مواجهة، فإن الوضع في أميركا الشمالية مختلف، لأنه ليس لدى كندا أو الولايات المتحدة مجموعات تحت مسمى المهاجرين أو اللاجئين، ومع ذلك فقد نزعت بعض الكنديات المسلمات حجابهن خوفاً من ردود فعل انتقامية، وأقيم نهار للحجاب في مكتبة عامة بإحدى المدن الكندية لشرح معاني الإسلام وسماحة الدين، وفي الولايات المتحدة وعلى مستوى الكونغرس بمجلسي النواب والشيوخ، تصاعدت الدعوات لإقفال الحدود أمام اللاجئين السوريين من ضمن التدابير الاحترازية.

الكارثة الكبرى هي التي تنتظر أوروبا، لأن الدول الأوروبية المستهدفة بتهديدات سابقة من "داعش" ملزمة باتخاذ إجراءاتها الداخلية ضمن حدود الدولة، ومرتبطة في الوقت نفسه بموجبات اتفاقية "شنغن"، التي تبيح التنقل بين دول الاتحاد دون عوائق حدودية، باستثناء بريطانيا، والاتفاقية كاملة متكاملة، وليس هناك إمكانية لتطبيق نصف اتفاقية كما يحصل بعد تفجيرات باريس عبر الاستمرار بتطبيق مبادىء "شنغن" وفي نفس الوقت اتخاذ تدابير ضبط وتفتيش على الحدود بين بعض بلدان ذاك الاتحاد.

مشكلة الأوروبيين أنهم يعتقدون أن "داعش" أو أية منظمة إرهابية أخرى هي مجرد عديد وعتاد ينتقل إلى أوروبا من سورية أو العراق عبر تركيا، لكن وإن كان هذا قد حصل وسيحصل، إلا أن "داعش" هي فكر إرهابي تكفيري موجود ضمن البيئة الأوروبية ليس فقط ضمن المهاجرين الموجودين على سبيل المثال في فرنسا وبلجيكا ضمن أحزمة الفقر حول المدن، بل ضمن أبناء الوطن الأصليين، ومئات النماذج عن فرنسيين وبريطانيين وسواهم قدموا إلى سورية والتحقوا بـ"داعش".

الدول الأوروبية أمام واقع مواجهة فكر تكفيري بالمعنى الديني، قادم إليها متسللاً ضمن مئات آلاف اللاجئين الذين تدفقوا على أوروبا مؤخراً ومبعوثين من طرف "داعش" وأخواتها لضرب المجتمعات الأوروبية انتقاماً من الدول الأوروبية المشاركة في ضرب "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وهذه الدول أيضاً وفي مقدمتها فرنسا، تعاني من أزمة مع مهاجرين يعيشون فيها منذ عشرات السنوات ويحملون جنسيتها، وهم يعانون من حرمان في الحقوق يجعل منهم بؤراً إرهابية جاهزة، إضافة إلى الشباب الأوروبي الناقم على كل ما يقيّد حريته المفرطة في العيش على هواه، ما يعني أن أحزاب المعارضة في كافة الدول الأوروبية لديها قواعد على شكل خلايا نائمة لمماحكة أنظمة الحكم وإرباكها، سواء عبر التظاهرات سابقاً وعبر الإرهاب حالياً، وقنبلة مولوتوف يدوية الصنع أمام مطعم أو حانة أو مدخل استاد رياضي، كافية لأن يعتبرها المجتمع الأوروبي عملاً إرهابياً وتفرغ الشوارع من المارة ضمن بيئة لم تعرف الحرب منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وإذا كان الإرهاب بات هاجس الأوروبيين، فإن كل القوانين والتشريعات الداخلية أو الاتحادية غير صالحة حالياً لمواجهته، وإذا كان الرئيس الفرنسي قد سارع بعد مأساة باريس إلى الدعوة لتعديل الدستور بما يتلاءم ويتواءم مع واقع مواجهة المخاطر، فإن فرنسا التي كانت تظن نفسها بمنأى عن الإرهاب، باتت ملزمة أيضاً بتعديل قوانينها القضائية، خصوصاً أن المواطن الفرنسي الذي كان يقاتل مع داعش في سورية وعاد إلى بلاده، كانت تُعتبر جريمته جنحة بسيطة في قوانين القضاء الفرنسي، بينما يجد الرئيس الفرنسي نفسه الآن مجبَراً على تعديل الدستور والقوانين والتدابير الأمنية بمعزل عن شكليات مسايرة الاتحاد الأوروبي واتفاقية "شنغن"، وفي نفس الوقت مواجهة معارضة الداخل كما يحصل مع زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي دعت وتدعو إلى التحالف الفرنسي مع الرئيس بشار الأسد للقضاء على الإرهاب في مهده داخل سورية، ما يعني خلط أوراق اللعبة الفرنسية وانقلاب الطاولة على هولاند والحزب الاشتراكي الحاكم الذي سيواجه انتخابات محلية في الأسبوع الأول من ديسمبر/ كانون أول المقبل، وحظوظه تقارب النسبة المئوية من الناخبين المؤيدين لهولاند، والتي لم تكن تتعدى 18% قبل انفجارات باريس، سيما أن لوبان ترى أن سياسة التردد لدى هولاند والتبعية لأميركا من جهة ولمصالح استثمارية مع السعودية من جهة أخرى تُعتبر من مسببات استقدام الإرهاب إلى قلب باريس.

وكما في فرنسا كذلك في بلجيكا، حيث يمنع القانون "الجيش الاتحادي" من مداهمة منطقة معينة دون موافقة عمدة المدينة، وهذا ما حصل فعلاً عندما حاولت قوة من هذا الجيش الدخول إلى إحدى المدن التي يسكنها مهاجرون عرب وأفارقة في ضواحي بروكسل، ورفض عمدة المدينة السماح بالمداهمة.

ثم إن تحميل "داعش" كل المسؤولية بات يشبه ما يمكن تسميته بـ"راجح الكذبة"، لأن الإرهاب الجزئي يطرق أبواب أوروبا من داخلها قبل أن تولد "داعش"، وخير مثال على ذلك إقدام المهاجرين العرب والأفارقة عام 2005 على إحراق 5000 سيارة في إحدى الضواحي الباريسية؛ في مواجهة مع الشرطة نتيجة احتجاجهم على تدابير اتخذها الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي بحق المهاجرين، واعتبروها ظالمة.

في الخلاصة، وأمام تحديات تدفق اللاجئين ومواجهة الإرهاب، فإن القيم الأوروبية في الحرية باتت مقيدة بمستلزمات أمن المجتمع الداخلي لكل دولة، وإعادة النظر بقيود الاتحاد الأوروبي باتت حتمية، وقد كانت بريطانية سباقة بالمطالبة بهذا الأمر، إضافة إلى أن التطبيق الجزئي لاتفاقية "شينغن" قد يكون البداية لإلغائها، وتعود كل دولة أوروبية إلى داخل حدودها لمواجهة إرهاب يعيش داخلها ضمن قمقم جاء من الخارج فكر تكفيري، وفجّر القمقم وأخرج منه المارد الراقد.