كلّما تجوّلت منذ ال1984 في وسط بيروت(الخاوية اليوم) الذي اتّخذ تسمية الدوان تاون بدلاً من "ساحة الشهداء" أو "ساحة البرج"، قفزت الى الذهن فوراً صورة سقوط شاه إيران مغادراً طهران في العام 1979 حيث كنت مقيماً يومها في باريس مديراً لتحرير مجلّة "المستقبل" التي إشتراها الرئيس الحريري وصارت تياراً سياسياً وصحيفة يومية وقناة تلفزيونية.

كلّما تجوّلت هناك ترتسم في المخيلة/الذاكرة الحلقة الثانية من السيناريوهات القديمة المحبوكة للعبث ببلدان الشرق الأوسط وتحريكها وكأنها أحجار فوق رقعة شطرنج. فما العلاقة السريّة بين بيروت القديمة المتجددة وطهران القديمة قبل الثورة؟ من أسقط الشاه وما معنى إسقاطه فعلياً؟ ولمن بنيت بيروت الجديدة أغلى بقعة في العالم؟ ألأهلها اللبنانيين ما بعد البحار أم لأهلٍ آخرين خائفين على مستقبل بلادهم وهم ينتظرون أن يحلّوا فيها في المستقبل وتدفقت أموالهم بالأطنان لأجل هذه المدينة الجديدة؟ وأيّ مستقبل بالضبط؟

الجواب الأوّل لا يتعدّى الأخبار القديمة المتناقلة بين الأجيال في لبنان حول علاقات بعض السياسيين اللبنانيين بالشاه وفي رأسهم كميل شمعون، وبالمؤمرات الغربية وحلف بغداد وغيرها من التفاصيل التي لربّما تتجدّد على ألسنة الأحفاد.

أمّا الجواب الثاني فأمهّد له في ملاحظتين:

1- تقع ايران على تقاطع الطرق التي توحد أوروبا بآسيا وبشبه القارة الهندية لتعبر جنوباً الى أفريقيا، وهي تسبح في بحور ثلاثة: بحر الشمال وبحر الخليج وتسميته لم تحسم بعد وبحر عُمان في الجنوب. ويفترض بإيران أن تعبر العراق وسوريا بهدف الوصول الى البحر المتوسط. وكان الإسلام بمعناه الثوري هو الذي عبّد الطريق بين طهران وبيروت، وحوّل المقاومة الى مسألة كبرى على علاقة بالصحوة الإسلامية، وحسم كلّ التاريخ السرّي لإيران في موقفها من الصراع العربي الإسرائيلي، فأطلقت طهران خطابها في فلسطين الى جانب العرب ووضعت عمامتها في مقدّمة الصفوف مقاومةً إسلامية مفتوحة لمن شاء النضال.

اللافت أنّ ايران الثورة بعد سقوط الشاه، مذ خلعت ثياب الغرب تتقدّم دولة عظمى في منطقة الشرق الأوسط، كما أسميناها أكثر من مرّة، وكما أسماها صموئيل هننغتون مؤلّف "صراع الحضارات"، في محاضرة له في اسطمبول(2005) الى جانب تركيا دولة عظمى أيضاً في المنطقة ومرجعية للمسلمين المعتدلين الذين يرتدون اللباس الغربي بخلاف طهران وغيرها من العواصم الإسلامية. كان الرئيس حافظ الأسد قد أحسن شبك أصابع سوريا بأصابع طهران ولبنان في نسيج المقاومة حيث حصلت الإجتماعات الأولى بين السفير الأميركي في العراق ومسؤولين ايرانيين بشأن العراق وبدء توضيب الحقيبة الأميركية لانسحاب عسكري أميركي مشوب بالهزيمة من العراق بعد ال2003. كانت هذه الإتصالات الأولى من نوعها بعد قطع العلاقات الدبلوماسية بين طهران وواشنطن منذ التاريخ إيّاه 1979 أي تاريخ سقوط الشاه وصولاً الى الإتفاق النووي بين طهران والغرب.

كانت واشنطن وكأنها على مشارف البحث عن دولة مرجعية للمسلمين أمام تعثّرها المتزايد والمقصود في المنطقة، لأننا بالتالي أصبحنا أمام تاريخ عربي وإسلامي طويل خطير وحافل بالصراعات الإقليمية المذهبية والثورات والإرهاب من كلّ جنس ولون وهو قد يمتدّ لقرون!

2- الرئيس الأميركي جيمي كارتر قال في إيران في 31 كانون الأوّل 1977:

" ايران هي جزيرة الإستقرار في المنطقة الأكثر اهتزازاً من العالم. وليس هناك من بلد في الأرض أقرب الينا من ايران في ما خصّ أمننا المشترك. وليس هناك من قادة في العالم أعترف لهم بالفضل العميق وبالصداقة الشخصية أكثر من شاه ايران". صحيح أن الشاه كان يسمع هذا الكلام مرتاحاً ومنتشياً، لكنه كان يذكر أيضاً ما قاله له ضابطان أميركيان قبل عام من ذلك التاريخ أي في1976 بأنه في خلال عامين سينتهي ومعه تنتهي ايران. لقد صادق الشاه الغرب وعرف روزفلت وتشرشل وديغول وديستان وايزنهاور ونيكسون وكان يجمعه بهنري كيسنجر " تفكير جيوبوليتيكي قريب جدّاً، وكيسنجر هو الوحيد الذي فهم ضرورة أن يكون للغرب حليفاً قويّاً في هذا الجزء من العالم.." كما قال الشاه في كتابه الأخير"Réponse à L`histoire أي جواب على التاريخ" الصادر في فرنسا العام 1979 والحافل بالأحداث والعبر المثيرة التي تفصح عن أخلاقيات الدبلوماسيات الغربية في رفع الأوطان على السطوح ورميها مع الحلفاء الأقربين من فوق.

نعم من فوق، وفي هذا عبر لمن ينتظرون فوق السطوح العربية والشرق أوسطية.

أين هو هذا الشاه الذي ربّته إمرأة فرنسية هي مدام عرفة وأصلها مدام بوجو، علّمته وهو ابن 6 سنوات اللغة الفرنسية وعلّمته كره المانيا قبل أن يبدأ نموه ودراسته في سويسرا ليجبل طهران بملامح الغرب وأميركا خصوصاً.

كيف سقط الشاه؟

سقط من فوق السطح، وسواء أكان سقوطه بسبب من اللوبي البترولي الذي كان على الدوام حجر عثرة في التفاهم بين الشمال والجنوب من الكرة الأرضية، أم أسقطه" حرّاس الثورة المنظمة التي أسسها ابراهيم يزدي المستشار المعروف للخميني في النوفل لو شاتو في ضاحية من ضواحي باريس، ويزدي شخصية فريدة وكان يتحرّك بجواز سفر أميركي وأصبح نائب رئيس المجلس الثوري ووزيراً للشؤون الخارجية" (كما يذكره الشاه في كتابه)، أم أسقطته أميركا أو سهّلت اسقاطه إذ كان من المتفق عليه( مع من؟) أن يأخذ رضا بهلوي أسابيع للإستجمام. وللتاريخ فقد اُعلن عن خروج الشاه رسمياً ليس من طهران بل من واشنطن في 11 شباط 1979 في مؤتمر صحفي عقده سايروس فانس وكان سكرتيراً للدولة الأميركية.

يمكننا التركيز هنا على الصورة الأخيرة التي انطبعت في مخيلة الرجل الذي حكم الأرض الإيرانية 37 عاماً، والتي عبّر عنها بالقول:" الأيام الأخيرة أيام تمزق بلا نوم، والاستمرار في العمل مع التيقن من دنو الرحيل... واذ أترك هذه الأرض لكن تعيش في همومي ومخيلتي الحاشية الكبرى والوجوه الدامعة الوعرة والخائفة التي جاءت لوداعي في المطار..".

ماذا يعني سقوط الشاه؟

يعني على المستوى الشخصي للشاه تداعيات لا تنتهي نراها اليوم في الأقاليم وعواصم العرب. غادر الشاه الى أسوان المحطة الأولى في منفاه، وهو لم يكن يفاجئه ولا يفاجئنا استقبال السادات له كونه أولّ صاحب فتق في الجسد الصراعي بين العرب و"إسرائيل". كان يفضّل الإبتعاد أكثر من مصر حيث ذكريات نيل المصاهرة مع الملك فاروق، وفي ذهنه السفر قطعاً نحو الولايات المتحدة الأميركية حيث أنجاله، لكنّ أميركا أوحت لأصدقائه بألاّ يفعل، ودفقت عليه النصائح كما يقول:" إيّاك أن تذهب الى أميركا". انتهى في الباهاماس بعدما حطّ في ضيافة عابرة لدى ملك المغرب التي غادرها لتبدأ حسب قوله" المرحلة الأشدّ قساوة في تاريخ المنفى المشحون بالكوابيس".

كان لا يمكن أن يكون الشاه منفي فرنسا التي ساعدته على بناء اثنين من مراكز ايران النووية الستة الى مئات المليارات التي ضخت في أصفهان ومتروطهران ومئة وثمانين مصنعاً فرنسياً كانت تعمل في ايران في العام 1978!

كانت فرنسا تحتضن وتتحضّر لعودة الخميني ظافراً في 1 شباط الى طهران.

وكان يعني سقوط الشاه على المستوى الدولي أحداثاً هزّت فيالقها الشرق الأوسط برمته، وقلقاً مرعباً أصاب الدول البترولية كلّها وشيوخ البترول والأنظمة والأمراء والعائلات العريقة في التاريخ للمنطقة، "وخصوصاً في هذا الجزء من العالم الذي قد يفجّر اليوم حرباً عالمية ثالثة لم تتّضح هويتها وأبعادها الفعلية بعد.

السؤال الأقليمي الخطير

مع سقوط الشاه وتلبّك الدول والدبلوماسية العالمية بحاشيته الكبيرة التي تفوق ال12 ألف شخصية وأخبار التصفيات الثورية والطائرات التي كانت تحمل العائلة الشاهنشاهية والحلفاء والشخصيات واللوحات الثمينة والطائرات المعبأة ببقايا الشاه والأشياء وأمكنة التوزع والإقامات، في السنة نفسها طرحت دوائر الغرب بطلب من دولة أو بعض الدول البترولية المصدومة بسقوط الشاه، وبقلّة الوفاء والأخلاق في السياسة الدولية السؤال التالي:

أين نذهب لو حلّ بنا لا سمح الله ما حلّ بإيران؟

وجاء الجواب/الإقتراح الفرنسي في تقرير سرّي خطير:

نذهب بكم الى بيروت!

بيروت هي البديل.

طرح سؤآل آخر: لكنها تتدمّر؟

وكان الجواب: لا بدّ من وقف الحرب في لبنان وإعمارها من جديد تحضيراً لمستقبل جديد.

بدأت ورشة إعادة إعمار بيروت مع استمرار الحروب التدميرية التي استمرّت حتّى اتفاق الطائف 1989 أي عشر سنوات من التلازم بين النار ووقف إطلاق النار. وعادت بيروت مدينة عريقة للمستقبل.

لكن السؤال الذي ينتظر جواباً هو:

من سيقطن وسط بيروت بعدما بناها الحريري وتمّ إغتياله في ال2005؟ بالفعل: من سيقطن بيروت الفارغة وهناك ظاهرة لافتة هي عروض الخليجيين لبيع أملاكهم وقصورهم وتوظيفاتهم في لبنان؟

خطورة هذا السؤآل الأخير وصعوبته مشكولة بظاهرة عدم هدوء الفيالق والزلازل والتفجيرات في الغرب والشرق.