للمرة الأولى منذ تموضعه وسطياً بين «المستقبل» و»حزب الله»، أي بين السعودية وإيران، تخلّى النائب وليد جنبلاط عن حذره وذهب بجرأة إلى مواجهة غير متوقَّعة: «لبنان قد يصبح محافظة في «سوريا المفيدة» الممتدة من درعا إلى اللاذقية. والهيمنة السورية عائدة، ولو لم تعُد القوات السورية. ورئيس الجمهورية العتيد آتٍ على سجادة إيرانية»!يبدو جنبلاط وكأنه «ذاهب إلى الحرب فيما الناس راجعة». فهو «يتحرَّش» بإيران، وإلى حدٍّ ما بـ»حزب الله»، فيما كل القوى في 14 آذار «تُدبِّر رأسها» بفتح قناة إتصال مع «الحزب». ولذلك، طرح كثيرون أسئلة عن المعطيات التي دعت جنبلاط إلى الإتجاه «عكس السير»، وهو السبَّاق إلى التموضع الوسطي.

في الأوساط السياسية يجري التداول بكلام مفاده أن جنبلاط يشعر إلى حدّ ما بالخيبة في ملف رئاسة الجمهورية. وقد كان ينتظر من «حزب الله» أن يدعم المبادرة القاضية بانتخاب النائب سليمان فرنجية، والتي لعب جنبلاط كل أوراقه لتمريرها، مشجعاً الرئيس سعد الحريري عليها، وعاملاً معه على إقناع المملكة العربية السعودية بها.

وربما يكون مغزى اعتراض جنبلاط، كما يقال، هو أن فكرة المبادرة لم تكن أساساً فكرته هو، بل إن هناك جهات محسوبة بقوة على محور الأسد - طهران قيل إنها كانت وراءها، وقد تلقَّفها جنبلاط ومضى بها.

وبناء على حسابات جنبلاط، فإن المبادرة كان يمكن أن تشكّل ركيزة لتسوية شاملة، أي لـ»دوحة جديدة»، يكون فيها الوسيط، فيقطف ثمار الوساطة في شكل مكاسب سياسية، بدءاً بوصول فرنجية إلى الرئاسة وانتهاء بقانون الإنتخاب والحصة في المجلس النيابي والحكومة وسواهما.

ويقال إن الذين شجَّعوا جنبلاط على الإضطلاع بهذا الدور، أرادوا منه أن يفعل ذلك لأن أحداً سواه لا يصلح لهذه المهمة. فهو في منطقةٍ وسطى، وقادر على التواصل مع آل فرنجية من منطلق العلاقات التاريخية بين العائلات السياسية التقليدية، كما إنه قريب من الحريري، وقد استعاد رصيده مع السعوديين بعد القطيعة.

ولطالما انتظر جنبلاط اللحظة المناسبة لوساطة «مثمرة» يقطف فيها هذه المكاسب، كما فعل غالباً. ولذلك، وضع ثقله لتسويق المبادرة. وظهرت براعته فيها. وفعلاً، هو استطاع فيها أن «يُركِّب الذكَر على الذكَر». فليس سهلاً إقناع الحريري بفرنجية.

البعض يروي أن ذوي القرار في السعودية تلقَّفوا الفكرة بهدف إرسال إشارة إلى إيران تؤكد استعدادهم لإبرام صفقات معها حول ملفات المنطقة، خصوصاً بعد توقيع الإتفاق حول النووي. فالتسوية السهلة في لبنان تصلح مقدمةً لتسويات أخرى في سوريا والعراق واليمن. ولذلك، شجعوا الحريري على المضي فيها وعدم التوقّف عند أي اعتبار آخر.

إصطدم الحريري بإصرار جعجع على الرفض. لكن جنبلاط كان يضحك في عبِّه لأنه اعتقد أن الصفقة ستمرُّ في النهاية. وما دامت في مصلحة «حزب الله»، فهو سيعطي الضوء الأخضر للحلفاء بانتخاب فرنجية. وهذا ما أبلغه للحريري.

ويقول المتابعون إن في خلفية إصرار جنبلاط اعتقاداً منه بأن عون وجعجع لن يستطيعا تعطيل المبادرة، لأن كلاً منهما سيسير في النهاية وفقاً لمقتضيات تحالفاته في «8 أو 14». وإذا لم يفعلا ذلك، فإنهما سيعزلان نفسيهما ويجري تمرير التسوية من دونهما.

وفي تجارب سابقة، لم يسأل النافذون الشيعة والسنّة على المسيحيين ومضوا في تركيب التسويات بوساطة جنبلاط، من الحلف الرباعي في 2005 إلى الجلسة التشريعية الأخيرة التي تم فيها إرضاء المسيحيين صوَرياً.

والتسوية الأخيرة، والقاضية بانتخاب فرنجية ضمن سلّة متكاملة، كانت طُرِحت في عهد حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. وتردَّد أن مرجعيات ديبلوماسية عربية طرحتها في ظروف احتاج فيها «حزب الله» إلى تعويم الإعتدال السنّي في لبنان لمواجهة التطرّف المتنامي في بعض البيئات السنّية، والتي تخللتها موجات من التفجير الإنتحاري في مناطق الضاحية وبعلبك - الهرمل.

وتقضي التسوية بتفاهم سنّي- شيعي يراعي مصلحة جنبلاط، ويكون دور القوى المسيحية هو فقط الإنضمام إلى هذه التسوية.

ولكن، تبيَّن لجنبلاط اليوم أن إيران ليست في جهوزية إنتخاب رئيس جديد للبنان. فهي تنتظر أن «يرتفع السعر لتبيع الإنتخابات». وهي لا تجد فائدة في تقديم الرئاسة اللبنانية، برمزيتها، مجاناً إلى أي طرف، ما دامت مقبلة على مرحلة أفضل، عندما تقيم شراكتها الإقليمية - الدولية، القادرة من خلالها على المشاركة في إعادة رسم الشرق الأوسط بكامله.

ظنّ جنبلاط أن إيران باتت مقتنعة بنضوج موعد التسوية في لبنان، وأنها ستجد في التسوية المطروحة فرصة لتكريس انتصارها، بدءاً بموقع رئاسة الجمهورية، خصوصاً بعد اعتراف «المستقبل» الثمين بأن هذا الموقع بات محصوراً بفريق «8 آذار».

ويستاء جنبلاط لاعتقاده أن هناك من شجَّعه على تسويق مبادرة كان يدرك مسبقاً أنها غير ناضجة، وتالياً أن هناك مَن ورَّطه لا في وساطة بل مناورة سياسية تستهدف إستدراج «المستقبل» وسائر «14 آذار» إلى عملية تنازل وجسّ نبض لا أكثر.

ولذلك، بادر جنبلاط إلى «بقّ البحصة»، معلناً أن إيران هي التي تقف في طريق الإنتخابات الرئاسية، وأن الهدف الكامن هو استعادة سيطرة الأسد على القرار، ولكن «بالريموت كونترول» إذا كانت متعذَّرة عودة قواته إلى لبنان.

لكن جنبلاط يحرص - كما هو عادةً - على ألّا يقوده هذا الموقف إلى مواجهة حقيقية مع «الحزب». فهو بارع في رسم الحدود ما بين المعارك التكتيكية والحروب الحقيقية، وهو يعرف كيف يضبط إيقاع حملته، بحيث لا تعود العلاقات مع «الحزب» إلى المرحلة الصراعية السابقة. وهو حتى اليوم عرف كيف يكرِّس تطبيعاً ناجحاً مع «الحزب»، في موازاة عداوته الضارية مع حليف «الحزب»، الرئيس الأسد.

في تقدير جنبلاط، لو أرادت إيران الإنتخابات الرئاسية اليوم، لكانت جمعت حلفاءها وأوعزت إليهم أن ينتخبوا فرنجية. ولكنها لم تفعل، وفوَّتت عليه فرصة إستثمار سياسية نادرة، قد تصبح أكثر صعوبة في المستقبل. فالشرق الأوسط مُقبل على تحوُّلات سيكون لبنان جزءاً منها.

وفي زمن رسم الخرائط التي تبدأ بتحديد إطار «سوريا المفيدة»، وفق اقتناع جنبلاط، يبدو المأزق الدرزي في الصراع المذهبي الإقليمي شبيهاً بالمأزق المسيحي. فالأولوية لدى الأقلّيتين هو الحفاظ على الحضور، فلا تندثر الأقلية تحت أقدام الخيل في معارك الأكثريات.

لكن هناك فارقاً بين المجموعتين اللبنانيّتين، المسيحية والدرزية، في طريقة المقاربة واستراتيجيات المواجهة، نظراً إلى اختلاف العوامل الجغرافية والديموغرافية والاجتماعية والثقافية المتوارثة.

وإذا كان زعماء المسيحيين معتادين على المعارك التي لا هوادة فيها، في ما بينهم ومع الآخرين، فإن جنبلاط يدرس خطواته بتأنٍّ. ولذلك، «سيُغرِّد» جنبلاط على «تويتر» خارج السرب أحياناً... لكنه لن يبتعد كثيراً!