يستسهل المسؤولون مجدّدًا مدّ اليد إلى جيوب الناس مباشرة للخروج من أزمة الشحّ المالي التي تواجه السلطة، مع وجود توجّه إلى فرض ضريبة على "تنكة ​البنزين​"، تتراوح بين 3 و5 آلاف ليرة، علمًا أنّ لبنان يستهلك أكثر من 90 مليون صفيحة بنزين سنويًا، ما يعني أنّ زيادة الـ5 آلاف ليرة لبنانية على كلّ صفيحة من شأنها أن تؤمّن نحو 450 مليار ليرة، أي حوالي 300 مليون دولار.

مرة أخرى تصرّ السلطة على فرض ضريبة عمياء وسهلة الجباية تطال الجميع، غايتها الاساسية تأمين موارد سريعة من جيوب المواطنين. ولكن يبقى السؤال: هل سيقبل الشعب مجدّدًا بأيّ إجراء ضرائبي على أساس حاجة الدولة إلى المال؟

حتى اليوم، يبقى المواطن غافلاً عن أوجه التصرف بالمال العام مع الاصرار على إبقاء قانون الحق في الوصول إلى المعلومات في الأدراج، فالثقة بين الشعب والحكومة انكسرت إلى غير رجعة، ولن يرتاح المواطن إلى أيّ إجراء ضرائبي ما لم يشعر أنّه شريكٌ حقيقي عبر الرقابة المباشرة على كلّ قرشٍ يُصرَف، وهذا لن يتم ما لم يصبح قانون الحق في الوصول إلى المعلومات فاعلاً في كل الادارات عبر نشر كلّ التصرف بالمال العام على الانترنت واطلاع المواطن عليه بكل شفافية.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فسؤالٌ آخر يطرح نفسه، إذ كيف تم اللجوء الى هذه الضريبة التي لا تفرّق بين ميسور ومحدود الدخل، ولا تفرّق بين من يحقق الارباح على حساب الدولة، وبين من يناضل يوميًا لتأمين قوت العيش في بلد باتت كل الحقوق الاقتصادية منتهكة فيه؟

فبدل أن تلتفت الدولة إلى عشرات مزاريب الهدر والموارد الفائتة، تستسهل أن تفرض ضريبة على سلعة ينخفض سعرها، وبدل أن تذهب الدولة الى التحقق من زيادة التنافسية التي تؤدي تلقائيا إلى انخفاض الاسعار لتخفيف الاعباء على المواطن، تختار أن تستفيد من هذا الانخفاض لتمدّ يدها إلى جيب المواطن مباشرة، وتتجاهل عشرات الجيوب الأخرى التي تصنع الثروات جراء استغلال موارد الدولة، والأمثلة كثيرة لموارد اختارت الدولة أن تمنحها كجوائز ترضية:

- الضريبة على القيمة المضافة TVA: تقدّر بعض المراصد الاقتصادية الاقتصاد الأسود، أي من تحت الطاولة وبعيداً عن ​ضريبة القيمة المضافة​، بأكثر من نصف الحركة التجارية اليومية، وأصبح هذا الموضوع علّة والواضح أنّ لا نية حقيقية لمعالجتها. ويبدأ الموضوع عندما يُسمح لشركات بأن تستورد كميات تجارية وهي غير مسجلة في الـTVA، كما بغياب الرقابة شبه الكلي عن مئات الشركات التي يزيد حجم أعمالها بكثير عن الحد الادنى لعدم التسجيل، وتقدّر بالمئات وتتوزّع بين مطاعم وشركات تجارية وحتى صناعية، وأصبح من المعروف ايضاً بأن بعض المصانع الكبيرة في لبنان تلجأ الى التهرب من القيمة المضافة. فاذا تم ضبط هذه الضريبة، يقدّر بعض الاقتصاديين أنّه من الممكن مضاعفة دخل الضريبة على القيمة المضافة، فهذه الضريبة لم توجد لتُدفع مرة واحدة عند الاستيراد وتختفي بعدها، بل إنّ كل حركة تجارية يفترض بها أن تدفع ضريبة القيمة المضافة. وهنا، الرقابة ممكنة، وما علينا إلا أن ندرس الوضع في أغلبية البلدان الاوروبية التي تعتمد على ضريبة القيمة المضافة.

- مرفأ بيروت: من الملفت أنّ مداخيل مرفا بيروت لا تذهب مباشرة إلى المالية العامة، بل تذهب إلى اللجنة المؤقتة لتُصرَف على المشاريع والنفقات، ولا يذهب أكثر من 25 % الى المالية. إنّ التقديرات تشير إلى أنّ مداخيل مرفأ بيروت من جراء الرسوم قد تصل إلى حوالي 250 مليون دولار سنوياً، وتُصرَف هذه المداخيل من دون الرقابة المسبقة لمجلس الوزراء، وهذه مخالفة قانونية ودستورية، فمن المفروض أن تدخل كل هذه الاموال إلى الموازنة العامة، ومنها يتمّ دفع المعاشات والمصاريف من خلال قانون المحاسبة العامة.

- مطار بيروت: يمكن الاستفادة من مطار بيروت الدولي لادخال العديد من الخدمات التي لها مردود اقتصادي هام، مثل إدخال خدمة الـVIP الى المطار وتطوير خدمات صالون الشرف وفتح صالونات جديدة مدفوعة، كما إنشاء فندق لتسهيل عمليات الترانزيت، وإيجاد خدمات مبتكرة للتاكسي، الباصات ، هيليكوبتر والمطارات الداخلية لتأمين مداخيل جديدة، كما اعادة دراسة العقود الموقعة لادارة السوق الحرة وتحديد النسب العائدة للدولة منها، فاذا تم اعتماد نسبة 35 % من المبيعات للدولة كما هو معمول به في المجمعات التجارية، قد نحصل على مداخيل تصل إلى أكثر من 50 مليون دولار. كما تعميم تجربة الاسواق الحرة على المعابر البرية والبحرية وتحديد نسب مماثلة تعود للدولة اللبنانية.

- شركة سوليدير: إعادة النظر بكافة الاستملاكات واستثمار المرفأين الشرقي والغربي وتحديد حصة الدولة منها وضريبة الدخل وفرض ضريبة على قيمة الارض المردومة كضرائب مستحقة للدولة.

- الكسارات والمقالع: فرض ضرائب على أعمال المقالع والكسارات والمرامل المرخصة أو الحائزة على مهل إدارية بمعدل 5 دولار على كل م 2 رمل أو بحص أو صخور تدفع سلفاً عند اعطاء المهل القانونية، وتحدَّد من خلال مسح مسبق تكلف فيه شركات عالمية مع مراعاة الشروط البيئية واصدار كفالات مصرفية مرتفعة للتاكد من مراعاة شروط التراخيص.

- عمليات الاستيراد والتصدير في لبنان: إنّ عدم تنظيم هذا القطاع وعدم إعادة هندسة الاجراءات المتبعة يكلف الدولة خسائر كبيرة، الا ان مبالغ تقدر بأضعاف الرسوم المذكورة تدفع في المقابل لمخلصي البضائع والسماسرة، وبدورهم يدفعون الرشاوى التي أصبحت اليوم معروفة وتتخطى 150 مليون دولار سنويًا حسب بعض التقارير. إنّ تحديد طرق حديثة لاستيفاء الرسوم واعادة دراستها يمكن أن يؤمّن للدولة مداخيل قد تصل إلى أكثر من 300 مليون دولار سنوياً على أن لا تذهب الى هيئة مؤقتة جديدة.

- العقارات: عدم ربط التخمين بلجان التخمين واغلاق باب الاستنساب واصدار تخمين سنوي مركزي بالحد الادنى المقبول من المالية يطال كل عقارات لبنان، فالمخالفات والتجاوزات في عمليات التخمين للتهرب من دفع الرسوم كاملة تؤدي الى ضياع أموال الخزينة العامة. وبحسب الخبراء، فإنّ التخمين المعتمد في لبنان لا يصل الى 60% من قيمة العقارات الحقيقية كمعدل اجمالي. وينعكس التلاعب بموضوع التخمين على رسوم رخص البناء وضرائب الاملاك المبنية وحصر الارث الخ، وينعكس هذا الموضوع ايضاً على تسويات الاملاك العامة البحرية، فلو اعتمدت القيمة الحقيقية للاملاك، تكون التسويات اضعاف المبالغ المقدرة، كما بالنسبة للقيم التأجيرية التي يمكن ضبطها من خلال التخمين المركزي، ومن خلال التخمين المركزي تقدر زيادة المداخيل بحوالي 400 مليون دولار وعلى الضرائب الاخرى بين ضريبة رخص وضريبة املاك بحوالي 200 مليون دولار.

- تطبيق مبدأ التنافس وفك الحصريات الذي يؤدي الى تنشيط وزيادة الاستهلاك مما يؤدي إلى زيادة مداخيل الدولة، فكلما خفّت الحصريات ازداد الاستهلاك، والأمثلة على ذلك كثيرة من شركة طيران الشرق الاوسط، الكازينو، ادارة التبغ والتنباك، المرافئ، المطارات، وحصريات الدولة مثل الهاتف الخليوي والبريد والكهرباء وغيرها، ومنع الدولة من التدخل في حماية الوكالات الحصرية. وهنا لا بدّ من الاشارة إلى أنّه، إذا تمّ استيراد سيارة جديدة بنفس المواصفات، يدفع الوكيل الحصري رسومًا جمركية أقلّ بحوالي 30% مما يدفعه المواطن العادي، وهذه مخالفة دستورية قانونية، فلا يجوز أن يدفع أحدهم رسومًا جمركية مختلفة، وبالطبع نحن نخالف كل الاتفاقات التي وقعها لبنان لاعتماد التنافس الحر وزيادة التنافس في الاقتصاد الوطني.

هذا غيضٌ من فيض ما تهدره الدولة سنويًا، وترفض القيام بالرقابة الفعلية عليه وإعادته إلى حضن الدولة، وخصوصًا أنّ هذه الارباح محققة على حساب حصة الدولة، فبدل أن يسارع المسؤولون اليوم إلى استغلال المواطن مجدّدًا، فليبادروا إلى إعادة حصة الدولة من هذه الاعمال، وبالطبع يوجد عدة مصادر ضريبية أخرى لا مجال لبحثها في هذا المقال، مثل الأسلحة، الألعاب الالكترونية ومخالفات السير، رسوم ركن السيارات، الخ...

والأهمّ أنّه ما لم يقتنع المواطن بالادارة الصحيحة للمال العام، عبر الاطلاع على حسابات الدولة، والتصديق على موازنات حقيقية، ونشر كل ما يتعلق بالمال العام على الانترنت بشفافية تطبيقاً لقانون الحق في الوصول الى المعلومات، يبقى أيّ فرضٍ لضريبة جديدة هو نوعٌ من البلطجة لا اكثر. فليتفضّل المسؤول ويجبي الضرائب المفروضة اليوم، وهي أكثر من كافية بدلاً من استسهال زيادة ضريبة جديدة على البنزين!