بعد الجرائم التي ارتكبت بحق حلب والمواجهات فيها وعليها باتت حلب وكأنها تختصر الأزمة السورية كلها أو كما لو أنها المكان الذي فيه يُكتب عنوان المرحلة النهائية واتجاه الحلّ لسورية والمنطقة كلها.

وللإيضاح نرجع إلى سلوكيات أطراف الصراع في سورية بمعسكريهما، معسكر العدوان بقيادة أميركية ومعسكر الدفاع المتجسّد بسورية ومحور المقاومة والمدعوم من روسيا بشكل علني مباشر. وهنا نجد أن أميركا التي اذهلها ما تحقق من إنجاز سوري في تدمر، بما أكد الرجحان الكلي لكفة المعسكر المدافع، وجدت أن الذهاب إلى التسوية السياسية في ظل الواقع المستجد إنما يعني وبكل بساطة التسليم لمعسكر الدفاع بالانتصار وإقرار معسكرها بالهزيمة. وهو أمر لا يمكن لأميركا ومَن معها من مكونات معسكر العدوان خاصة الإقليميين منهم السعودية وتركيا تقبّله مهما كانت الضغوط والوقائع، لذلك اتجهت أميركا ومن باب حلب وعلى مشارف الجولة الثالثة من مباحثات جنيف إلى وضع الخطة ب التي كانت أعلنت عنها عبر أل «سي أي أي» اتجهت إلى وضع هذه الخطة موضع التنفيذ الجدي من باب حلب وربطاً بالمباحثات في جنيف.

وفي السياق التنفيذي قامت أميركا، بالتظاهر بالاهتمام الشكلي بمباحثات جنيف والادعاء بحرصها على التقدم فيها، لكنها في الوقت نفسه، وعبر تابعتها السعودية، دفعت وفد الرياض المشارك، إلى تعليق مشاركته لا بل إنها لم تعلق بحرف واحد على عرقلته للمفاوضات ودعوته إلى تفجير الجبهات كلها بوجه الجيش العربي السوري. أما في الميدان ومع تظاهرها الشكلي بحرصها على الاستمرار بوقف العمليات القتالية فإنها لم تحرّك ساكناً حيال ما أعلنته المجموعات المسلحة التي تصفها أميركا بأنها «معارضة معتدلة»، وقبلت بها شريكاً في العملية السياسية التفاوضية، لم تحرّك ساكناً ضدها عندما أعلنت عن تفجير الجبهات أو عندما تأكد إنها استعملت الأسلحة الكيماوية في العيس وتلتها، لا بل قامت أميركا وبكل وقاحة بالإعلان عن إرسال 250 جندياً من المارينز إلى سورية في مهمة ادعت إنها تدريب وقيادة العمليات ضد داعش، ولكنها في الحقيقة مهمة دعم وتنظيم الجماعات المسلحة ضد الجيش العربي السوري وحلفائه ووضع خطوط حمر أمام حركته في الميدان خاصة باتجاه الشرق، كما إنها سهلت وزوّدت الإرهابيين عبر تركيا بأسلحة متطورة منها صواريخ م/ط ستينغر وأوحت أو سمحت لتركيا بإدخال ما بين 7 إلى 10 آلاف إرهابي إلى منطقة حلب من اجل عمل عسكري كبير خطط له معسكر العدوان، فما هو هذا العمل وما هي أهدافه؟

هنا نذكر بأن الجيش العربي السوري ومباشرة بعد النصر الكبير في تدمر واجه مرحلة استثمار الانتصار وتطويره، بطرح السؤال ما هو الهدف التالي؟ وكان أمام الجيش لائحة من 7 أهداف ثمينة كبرى تشكل حلب واحداً من الثلاثة الأولى فيها إلى جانب دير الزور والرقة. وكانت تخشى أميركا أن يتّجه الجيش إلى حلب ويقطع كلياً الاتصال بين سورية وتركيا ويخرج اليد التركية نهائياً من العبث بالداخل السوري. وهنا يبدو أن معسكر العدوان اختار حلب ليسدد ضربة استراتيجية مؤثرة ضد معسكر الدفاع، ضربة من شأنها في الحد الأدنى منع استكمال تحرير حلب، وفي الحد الأقصى استباق السيطرة على كامل حلب ومنها إلى منطقتها وتثبيت ما أسمي «الجيب التركي في حلب» ALEPO POCKETوهو البديل عن المنطقة الآمنة التي طالما حلمت بها تركيا في سورية.

لهذه الأهداف وضع معسكر العدوان خطة حلب الإنقاذية بالنسبة له والتي عوّل عليها لتحدث التوازن الميداني الذي يترجم توازناً استراتيجياً. وتنفيذاً لهذه الخطة انطلقت جبهة النصرة بتنسيق كامل مع تركيا وبدعم فعال منها، ومعها كل الفصائل التي ترتبط مباشرة بتركيا وبالسعودية، انطلقت في مرحلة أولى بتوجيه ضربة جس النبض فنفذت غزوة العيس وتلتها، حيث نجحت القوى الإرهابية في الدخول إلى المنطقة والسيطرة على معظمها بعد استعمال الغازات السامة.

ولكن الخطوات التنفيذية التالية لم تكن كما شاءتها قيادة العدوان، حيث كان الفشل ذريعاً في خان طومان ومنطقتها وكان الكمين الهائل الذي نصبه الجيش العربي السوري وحلفاؤه في المنطقة والذي أودى بحياة أكثر من 300 إرهابي في اقل من ساعتين، وتتابع الفشل والإخفاق على جبهات أخرى في ريف حلب الجنوبي والغربي، حتى كانت قمة الفشل الذريع والخسائر الفادحة التي أنزلت بالإرهابيين عندما شنوا هجومهم العام داخل حلب ومحيطها، حيث كانت قوى معسكر الدفاع عن سورية يقظة وجاهزة تنتظر اللحظة لإنزال كارثة ميدانية بالمهاجمين.

أمام هذا الإخفاق وجد معسكر العدوان أن خطته انهارت وأحلامه في حلب ضاعت، فلجأ إلى سياسة تحديد الخسائر ولنقل سياسة إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالسياسة بعد أن ثبت العجز في الميدان، وفي ظل هاجس احتمال قيام الجيش العربي السوري وحلفائه بشن هجوم تطهيري شامل لاستعادة حلب بكاملها، فقد تفتق ذهن المعتدين عن حيلة خداعية جديدة تتمثل بالعودة إلى حالة وقف العمليات القتالية بعد أن خرقوها وأسقطوها، ثم إلحاق حلب بهذه الحالة وهنا يضمنون عدم قيام الجيش العربي السوري بتطهير الأحياء التي تتمركز فيها الجماعات المسلحة التي جلها من جبهة النصرة والعاملين بإمرتها.

ومن أجل الترويج لهذا الحل قام معسكر العدوان بأكبر عملية تضليل إعلامي، إذ وبعد أن قامت المجموعات المسلحة وبمشاركة من طيران التحالف الأميركي بقصف المستشفيات ومنازل السكان في حلب، قامت الآلة الإعلامية في معسكر العدوان بإلصاق تهم هذه الجرائم بالجيش العربي السوري للضغط على الحكومة السورية وحملها على قبول إدخال حلب في نطاق وقف العمليات العدائية فتضمن أميركا عدم دخول الجيش إلى الأحياء التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية. وهنا تكمن الفضيحة الأميركية التي فيها سعي ظاهر لمنح جبهة النصرة الإرهابية حصانة أممية.

وبالفعل وبعد إخفاق كل الهجومات التي قام بها الإرهابيون على حلب منذ أسبوعين، تحرّكت أميركا لطرح إدخال حلب في دائرة وقف العمليات العدائية أو إقامة مناطق عازلة داخل حلب تفصل الإرهابيين عن الجيش بما يثبت المسلحين في حلب ويمنع تطهيرها مستقبلاً.

إننا نرى في الطرح الأميركي خدعة كبرى ومحاولة للحصول بالسياسة على ما لم يتحقق في الميدان ونرى أن إدخال حلب في واقعها الحالي، حيث تسيطر جبهة النصرة على نسبة 80 من المناطق التي يسيطر على الإرهابيون في حلب أي ما يساوي تقريباً 30 من حلب، إنما يشكل خرقاً للقرار الدولي 2268 والقرار 2253 المتصلين بمكافحة الإرهاب، كما يشكلان مكافأة للإرهابيين على الجرائم التي ارتكبوها بحق حلب ومنحهم مناعة تبقيهم آمنين في حلب للفترة التي يحتاجونها من أجل إعادة التنظيم واستعادة القوة ثم الانقضاض مجدداً للسيطرة على حلب.

لهذه الأسباب، فإن معسكر المقاومة والدفاع عن سورية نظر إلى الطروحات الأميركية التي تدعو إلى إدخال مناطق سيطرة جبهة النصرة في حلب أو سواها في دائرة وقف الأعمال القتالية برفض واستخفاف. كما أنه يستخفّ رافضاً أي طرح من قبيل إنشاء مناطق آمنة للإرهاب داخل حلب أو سواها فضلاً عن رفض رسم خطوط حمر أو خُضر يكون على الجانب الآخر فيها إرهابيون يتمتّعون بحماية أو حصانة. وعلى هذا الأساس نقول إن خطة الإرهاب في السيطرة على حلب فشلت ثم فشلت خدعة منح الإرهابيين مناعة وحصانة تبقيهم في حلب بالشكل الذي يريدون، وبات لحلب توصيف جديد، فإلى جانب كونها منارة الصمود الوطني السوري باتت مقبرة أحلام وخطط الإرهاب والمعتدين.